والأمر الثاني- عدم حيد الخلفاء عن أمر الشارع فيما أمر به من الوفاء بالعهود، وتأكيدهم لعهد النجرانيين، الواحد تلو الآخر، على ضعف هؤلاء وقلتهم، وقوة الخلافة الإسلامية وسلطانها. وإن ذلك لم يكن عن رهبة أو رغبة، بل عن محض تمسك بالعهد، وعدل بين الشعوب الخاضعين لسلطة الخلافة، وسلطان الإسلام، من كل ملة ودين.
والأمر الثالث- حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قاعدة حماية الذميّ في نفسه وماله، بتعويضه النجرانيين عن أرضهم ومالهم بالمثل من أرض المسلمين ومالهم، لما قضت الضرورة بإجلائهم عن أرضهم، إلى غيرها من بلاد المسلمين: وقد ذكر في سيرة أبي بكر عن عمر رضي الله عنهما ما فعله من هذا القبيل من أهل عربسوس من ثغور الروم، وكيف أنه لما أمر بإجلائهم عن أرضهم لخيانتهم جوار المسلمين، ونكثهم عهد الأمانة والصدق، أمر بأن يعوّضوا عن مالهم وعقارهم ونعمهم ضعفين. وما زال الخلفاء في أيام الفتوح العظيمة وما بعدها يحافظون على حق القرار الثابت، والملك القديم، للأقوام المغلوبين للمسلمين، الخاضعين لسلطانهم، سواء كانوا من المسيحيين أو غيرهم. ولم يؤثر عن أحد منهم أنه طرد قوما من أرضهم، أو انتزعها منهم بغير حق ولا عوض. ولا عبرة بما ربما يقع من هذا القبيل على بعض الأفراد من جور بعض العمال الذين غلبت شهواتهم على الفضيلة، فحادوا عن طريق الشرع، فإنه قد يصيب أفراد المسلمين من جور هؤلاء أكثر مما يصيب غيرهم، وليس في هذا ما يقدح في أصول الحكم الإسلامي الذي يأبى الظلم، ويدعو إلى الرأفة والعدل. هذا شأن الإسلام في المحافظة على حقوق الأمم المغلوبة. وقد رأيت مما تقدم أنه لم يعط للمسلمين من حقوق الغلب التي ينتحلها الغالبون في كل عصر، إلا ما تدعو إليه الضرورة القصوى، وتستلزمه سلامة الملك والدين، لا ما تدعو إليه شهوات الملك، ورغبات الأمة الغالبة. وقد علم هذا المسلمون وخلفاؤهم، وأن لأهل الذمة ما لهم، وعليهم ما عليهم، فبالغوا في الرأفة بأهل جوارهم، والداخلين في ذمتهم من أرباب الملل الأخرى، فتركوا لهم حرية التملك والدين، لم ينازعوهم حقّا من حقوق المواطنة والجوار، بل كانوا يعتبرونهم جزءا من الدولة، وعضوا من أعضاء مجتمعهم لا غنى عن مشاركته في العمل، ومشاطرته أسباب السعادة المدنية، والحياة الوطنية. يؤيد هذا اعتماد الخلفاء الأمويين والعباسيين على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في ترتيب دواوين