الثاني- سبب نزول هذه الآيات أنه كان بالمدينة، قبل مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليها، رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير. فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهاجرا إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصار للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة، وظاهر بها، وخرج فارّا إلى كفار مكة يمالئهم على حرب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام (أحد) ، فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله عزّ وجلّ، وكانت العاقبة للمتقين. وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته. فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عينا، يا فاسق، يا عدو الله! ونالوا منه وسبّوه. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرّد.
فدعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة. وذلك أنه لما فرغ الناس من (أحد) ، ورأى أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على رسول الله، فوعده ومنّاه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار، من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنّيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويغلبه ويرده عما هو فيه وكان أمرهم أن يتخذوا له معقلا ومرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتجهز إلى تبوك. فأتوه فقالوا: يا رسول الله! إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية.
وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه.
فقال: إني على جناح سفر، وحال شغل، ولو قدمنا، إن شاء الله تعالى، أتيناكم، فصلينا لكم فيه.
فلما نزل بذي أوان- موضع على ساعة من المدينة- أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عامرا،
فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه.
فخرجا سريعين، حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: انظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل أهله، فأخذ سعفا من النخل، فأشعل فيه نارا، ثم خرجا يشتدّان، حتى دخلا المسجد، وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، ونزل فيهم ما نزل- ذكره ابن كثير، وأسند أطرافه إلى ابن إسحاق وابن مردويه-.