وينتفعوا بها، فلمّا أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم، وأبصروا الطريق- بعد أن كانوا حيارى تائهين- فهم كقوم سفر ضلّوا عن الطريق، فأوقدوا النار لتضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم- فأبصروا وعرفوا- طفئت تلك الأنوار، وبقوا في الظلمات لا يبصرون، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث- فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب: مما يسمعه بإذنه، ويراه بعينه، ويعقل بقلبه، وهؤلاء قد سدّت عليهم أبواب الهدى: فلا تسمع قلوبهم شيئا، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها. وقيل: لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له، ولا بصر، ولا عقل. والقولان متلازمان.
وقال في صفتهم فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ لأنهم قد رأوا في ضوء النار، وأبصروا الهدى، فلمّا طفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا. وقال سبحانه وتعالى:
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل: ذهب نورهم، وفيه سرّ بديع: وهو انقطاع سر تلك المعيّة الخاصة- التي هي للمؤمنين- من الله تعالى، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: ١٩] ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: ١٥٣] ، وإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: ١٢٨] . فذهاب الله بذلك النور: انقطاع المعيّة- التي خصّ بها أولياءه- فقطعها بينه وبين المنافقين، فلم يبق عندهم- بعد ذهاب نورهم-، ولا معهم، فليس لهم نصيب من قوله لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: ٤٠] ، ولا من كَلَّا، إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: ٦٢] .
وتأمل قوله تعالى: أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ كيف جعل ضوءها خارجا عنه، منفصلا، ولو اتصل ضوؤها به، ولابسه، لم يذهب، ولكنه كان ضوء مجاورة لا ملابسة ومخالطة، وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية، فرجع الضوء إلى معدنه، وبقيت الظلمة في معدنها، فرجع كلّ منهما إلى أصله اللائق به: حجة من الله قائمة، وحكمة بالغة، تعرّف بها إلى أولي الألباب من عباده.
وتأمّل قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل بنارهم، ليطابق أول الآية، فإن النار فيها إشراق وإحراق: فذهب ما فيها من الإشراق- وهو النور- وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق- وهو النارية- وتأمّل كيف قال بِنُورِهِمْ ولم يقل: بضوئهم- مع قوله فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ- لأن الضوء هي زيادة في النور، فلو قيل:
ذهب الله بضوئهم، لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل، فلما كان النور أصل الضوء، كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته، وأيضا فإنه أبلغ في النفي عنهم، وأنهم