فالهداية أظهر علامة في صدق النبوة والرسالة، إذ هي صفة الفعل، ومرتبطة بالدعوة- كالإبراء للطب، ومعرفة السطوح للهندسة، والبيع والشراء للتجارة، وصنع الأسرّة والأبواب وغيرها للنجارة- ثم قال: وإذا تصفّحت القرآن المجيد، تجد أن الله تعالى استدلّ بها في مواضع متعدّدة، ووصف القرآن بأنه حجّة- بما أودع فيه من الهداية والرحمة- ولا ترى موضعا واحدا وصفه بأنه أفصح الكتب وأبلغ الصحف، فانظر في قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
[القصص: ٤٨- ٤٩] . أترى أن الله تعالى أفحمهم بقوله: فأتوا بكتاب من عند الله هو أفصح منهما أو أبلغ منهما؟ وكذلك لما انتقدوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعدم صدور معجزة منه كالمعجزات السالفة، فقال تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: ٥٠] ، فبين الله تعالى مزية القرآن على سائر المعجزات، وكفايته عن غيره بأن فيه الذكرى والرحمة.
وقال تعالى في أول هذه السورة الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وما قال فيه فصاحة وبلاغة يعجز عن مثلها جميع العالمين. وذلك لأن الفصاحة والبلاغة من الأوصاف الخفية الغامضة الدقيقة- التي تختلف فيها الأذواق، وتتشعّب فيها الآراء والأنظار- ولكن ما ظهر من الرسول عليه السلام- بسبب نزول القرآن عليه- من العلم والقدرة على هداية الأمم، وإزالة أسقام أهل العالم، وتأسيس الشريعة الإلهامية، وإيجاد الأمة الإسلامية رغما للأمم الكبرى، ومباينا للديانات العظمى: أمر ظاهر محسوس، تصعب فيه المناقشة، ولا تفيد معه المغالطة. فمن الذي يمكنه أن ينكر أن الأمم العظيمة- كالعرب والفرس، والخزر، والترك، والهنود، والصينيين، وأهالي إفريقيّة- خرجوا من ظلمات الشرك، وعبادة النار والأوثان، وإنكار الأنبياء، ودخلوا في نور التوحيد، وعبادة الله وحده، والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه، بنور الكتاب المبين ... !
- كذا في كتاب (الدرر البهية) لأبي الفضائل الإيرانيّ- ولا يخفى أن ما ذكره هو وجه متين، ولكن لا يسوغ نفي ما عداه لأجله، بل يجدر أن يضم إليها، ويكون في مقدمتها والله أعلم.
ثم إن من عادته تعالى، في كتابه، أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع