مكابدة قريش، ومفارقة وطنه، ثم تعقيب ذلك بظفره بعدوّه، وإعزاز دينه، وإظهار كلمته، ورجوعه إلى بلده، على حالة قرّت بها عيون المؤمنين، وما فتح الله عليه وعلى أصحابه. فتأمّل ذلك! ويوضحه ختم السورة بقوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ.... فحاصل هذا كله الأمر بالصبر، وحسن عاقبة أولياء الله فيه- كذا في تفسير البرهان للبقاعي ملخصا- وجاء في كتاب (النظام والإسلام) في بحث التربية والآداب في قصص القرآن ما مثاله:
طال الأمر على أمتنا، فأهملت ما في غضون كتابها من أساس التربية والحكمة، وكيف تنتقى الرجال الأكفاء في مهام الأعمال. يا ليت شعري! ما الذي أصابها حتى غضت النظر عن القصص التي قصها، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين. القصص في كل أمة، عليها مدار ارتقائها، سواء كانت وضعية أم حقيقية، على ألسنة الحيوان أو الإنسان أو الجماد. على هذا تبحث الأمم، قديمها وحديثها. وناهيك بكتاب (كليلة ودمنة) وما والاه من القصص الناسجة على منواله في الإسلام، ككتاب (فاكهة الخلفاء) و (مقامات الحريري) . جاء القرآن بقصص الأنبياء، وهي- لا جرم. أعلى منالا، وأشرف مزية. كيف لا وقد جمعت أحسن الأسلوب، واختيار المقامات المناسبة لما سيقت إليه، والقدوة الحسنة للكمّل المخلصين من الأنبياء ومن والاهم، وتحققها في أنفسها، لوقوع مواردها، وإن حب التشبه طبيعة مرتكزة في الإنسان، لا سيما لمن يقتدي بهم. فهذه خمس مزايا اختصت بها هذه القصص، ونقصت في سواها. أليس من العيب الفاضح أن نقرأ قصص القرآن، فلا نكاد نفهم إلا حكايات ذهبت مع الزمان، ومرت كأمس الدابر؟! وما لنا ولها إذن؟! تالله إن هذا لهو البوار! ولم يكن هذا إلا للجهل بالمقصود من قصصها، وأنها عبرة لمن اعتبر، وتذكرة لمن تفكر، وتبصرة لمن ازدجر. أما الرجوع إلى التاريخ، ومقارنته بما قصه المؤرخون في كتبهم، وما سطره الأقدمون على مباينتهم، وما يقوله القاصّون في خرافتهم، فتلك سبيل حائد عن الجادّة، يضلّ فيه الماهرون. يرشدك لذلك ما تسمعه من نبأ فتية الكهف، وكيف يقول: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ. وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف: ٢٢] فانظر كيف أسند العلم لله، ولم يعوّل على قول المؤرخين المختلفين ثم لم يبيّن الحقيقة لئلا يكون ذريعة للطعن في التنزيل. فإن قال: خمسة، قالوا: ستة وإن قال: أربعة،