السجن معظما مبجلا وترقى من تعليم الصعلوك في السجن إلى تعليم الملوك على العروش، وأخذ يربهم كيف يقتصدون الأموال، وعبّر لهم السنبلات الخضر واليابسات والبقرات السمان والعجاف، وأرشدهم إلى خزن البر وسنابله لئلا يفسد، وغير ذلك من الأمور العامة. وهذه هي المرتبة الثالثة سياسة الأمة بأجمعها بعد قطع تينك العقبتين.
والبراعة والكياسة في علوم العمران، وتدبير أمر الأمة، إمّا بوحي وهذا خاصّ به وبأمثاله من الأنبياء عليهم السلام، وإمّا بتعليم وتدريب وهو اللائق بسائر الناس.
ترشد هذه السيرة الشريفة إلى أن الأخلاق الفاضلة ما تثبت عليها النفس مع الحقير والعظيم والصغير والكبير، وأن الإنسان لا يستحقر تعليم الأصاغر، فإنه لا بدّ يوما ما أن يصل إلى الأكابر، كما في حديث هرقل «١» مع أبي سفيان، وتعليم الصدّيق من في السجن. فبلغ صاحب السجن فرعون المصريين.
ابتلي هذا النبيّ بالسراء والضراء فلم تتغير أخلاقه، وكان نموذج الكمال في سعة بيت الملك والجلال، وموضع الثقة في ضيق قبر السجن وعشرة الأسافل التي تتغير بها الأخلاق، وتنسى بها أصول الأعراق، وتنزل الكامل من عروش الفضيلة إلى أسفل مقاعد الرذيلة، ومن أوج الكمال إلى حضيض النقص! وهذه قصة يوسف- الذي تربى في مصر ونشأ فيها ولم تبهجه زخارف تلك المدنية إلى الرذيلة- جاءت عبرة للناس كافة وإلى المصريين خاصة! بهذه الأخلاق اعتلى يوسف عرش العظمة والجلال فساس مصر بعد أن كان مسوسا، وملك بعد أن كان مملوكا! ليس الجزاء على الأخلاق والكمال خاصا بالآخرة، بل في الدارين:
هذه هي الأخلاق الفاضلة، ذكرت في التنزيل نموذجا، في غضون هذه السيرة، للأمم الإسلامية ليأخذوا ثمرتها ولا يضيّعوا الزمن في أصلها وموردها في التاريخ كما يجمد المفسّر على الإعراب أو الصرف أو البلاغة وهذا غيض من فيض من حكم هذه
(١) أخرجه البخاريّ في: الوحي، ٦- باب حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حديث رقم ٧، عن أبي سفيان بن حرب.