فالحق أنه إنما عرّف لكونه معهودا مذكورا بقوله أَوْدِيَةٌ وإنما لم يجمع لأنه مصدر بحسب الأصل.
الخامس- قوله تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ جملة أخرى معطوفة على الجملة الأولى، لضرب مثل آخر. و (زبد) مبتدأ قدم عليه خبره، (من) في (ممّا) للابتداء أي: نشأ منه، وجوز كونها للتبعيض أي: هو بعضه وردّه أبو السعود بأنه يخلّ بالتمثيل. وقوله فِي النَّارِ صفة مؤسسة لأن الموقد عليه يكون في النار وملاصقا لها، وقيل: إنها مؤكدة. وقال أبو السعود: في زيادة النار إشعار بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصول الزبد. وعدم التعرض لإخراجه من الأرض لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل، كما أن لعنوان إنزال الماء من السماء دخلا فيه حسبما فصل فيما سلف، بل له إخلال بذلك. وسرّ التعبير الموصول في قوله: وَمِمَّا يُوقِدُونَ..
إلخ، الإيجاز بجمعه لأنواع المعادن مع إظهار الكبرياء بالتهاون بها، كأن أشرف الجواهر خسيس عنده تعالى، إذا عبّر عن سبكه بإيقاد النار به، المشعر بأنه كالحطب الخسيس، وصوّره بحالة هي أحط حالاته. وهذا لا ينافي كونه ضرب مثلا للحق. لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون به، مع الإشارة إلى كونه مرغوبا فيه متنفعا به بقوله:
ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ فوفى كلّا من المقامين حقه.
السادس- قدمنا أن قوله تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ على حذف مضاف، أي مثلهما، وسرّ الحذف الإنباء عن إكمال التماثل بين الممثل والممثل به، كأن المثل المضروب عين الحق والباطل!.
السابع: بدأ بالزبد في البيان في قوله: فَأَمَّا الزَّبَدُ وهو متأخر في الكلام السابق، لأن في التقسيم يبدأ بالمؤخر كما في قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ ... إلخ [آل عمران: ١٠٦] ، وقد راعى الترتيب فيه، ولك أن تقول النكتة فيه أن الزبد هو الظاهر المنظور أوّلا. وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره. والآية من الجمع والتقسيم، على ما فصّله الطيبي- كذا في (العناية) .
الثامن- قوله تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول، أو بجعل ذلك إشارة إليهما- كذا في أبي السعود.
التاسع- أشار الحافظ ابن كثير إلى كثرة ضرب الأمثال النارية والمائية في التنزيل والسنة، قال: