للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك المال فظنوه لقطة ليس له أحد فأخذوه وذهبوا- لكن يحسن منه أن يعاقب الأولين لتفريطهم وتضييعهم حفظ ما أمرهم به، ولو قالوا له: أنت لم تعلمنا أنك تبعث بعدنا جندا حتى يحترز المال منهم، قال: هذا لا يجب عليّ، ولو فعلته لكن زيادة إعانة لكم. لكن كان عليكم أن تحفظوا ذلك كما تحفظون الودائع والأمانات.

وكانت حجته عليهم قائمة ولم يكن يدعى فيهم ظالما. وإن كان لم يعنهم بالإعلام بذلك الجند. لكن عمل المصلحة في إرسال الأولين والآخرين. والله سبحانه وتعالى، وله المثل الأعلى، حكم عدل في كل ما جعله. ولا يخرج شيء عن مشيئته وقدرته. فإذا أمر الناس بحفظ الحدود وإقامة الفرائض لمصلحتهم.، كان ذلك من إحسانه إليهم وتعريفهم ما ينفعهم. وإذا خلق أمورا أخرى، فإذا فرّطوا واعتدوا بسبب خلقه الأمور الأخرى، كان عادلا حكما في خلق هذا وخلق هذا، والأمر بهذا والأمر بهذا. وإن كان لم يمدّ الأولين بزيادة يحترسون بها من التفريط والعدوان،. لا سيما مع علمه بأن تلك الزيادة، لو خلقها للزم منها تفويت مصلحة أرجح، فإن الضدين لا يجتمعان. والمقصود هنا أنه لا يحتج أحد بالقدر إلا حجة تعليل، لدعم اتباع الحق الذي بينه العلم. فإن الإنسان حيّ حساس متحرك بالإرادة. ولهذا

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء الحارث وهمّام)

فالحارث الكاسب العامل. والهمّام المتحرك الهمّ.

والهمّ مبدأ الإرادة والقصد. فكل إنسان حارث همام. وهو المتحرك بالإرادة. وذلك لا يكون إلا بعد الحس والشعور. فإن الإرادة مسبوقة بالشعور بالمراد. فلا يتصور إرادة ولا حب ولا شوق ولا اختيار ولا طلب إلا بعد الشعور وما هو من جنسه.

كالحس والعلم والسمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحو هذه الأمور. فهذا الإدراك والشعور هو مقدمة الإرادة والحب والطلب. والحيّ مفطور على حب ما ينفعه ويلائمه، وبغض ما يكرهه ويضره. فإذا تصوّر الشيء الملائم النافع، أراده وأحبه. وإن تصور الشيء الضار أبغضه ونفر عنه. لكن ذلك التصوّر قد يكون علما وقد يكون ظنا وخرصا. فإذا كان عالما بأن مراده هو النافع، وهو المصلحة وهو الذي يلائمه، كان على الهدى والحق. وإذا لم يكن معه علم بذلك، كان متبعا للظن وما تهوى نفسه. فإذا جاءه العلم والبيان بأن هذا ليس مصلحة، أخذ يحتج بالقدر، حجة لدد وتفريج، لا حجة اعتماد على الحق والعلم. فلا يحتج أحد في باطنه أو ظاهره بالقدر، إلا لعدم العلم بما هو عليه الحق. وإذا كان كذلك كان من احتج بالقدر على الرسل مقرّا بأن ما هو عليه ليس معه به علم. وإنما تكلم بغير علم. ومن تكلم بغير علم كان مبطلا في كلامه. ومن احتج بغير علم كانت حجته داحضة. فإما أن يكون جاهلا،

<<  <  ج: ص:  >  >>