عرّفا كانا معيارا للتعميم، فلا تقول أرقت الليل، وأنت تريد ساعة منه، إلا أن تقصد المبالغة. بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك. فلما عدل عن تعريفه هنا، علم أنه لم يقصد استغراق السرى، وهذا هو المراد من البعضية. وجوز بعضهم أن يكون (أسرى) من (السراة) وهي الأرض الواسعة. وأصله من الواو. أسرى مثل أجبل وأتهم، أي ذهب به في سراة من الأرض، وهو غريب. وفي تخصيص الليل إعلام بفضله لأنه وقت السر والنجوى والتجلي الأسمى، ولذلك كان أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل. والمراد (بعبده) خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم. وفي ذكره بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف والتنويه والتنبيه على اختصاصه به عزّ وجلّ وانقياده لأوامره- ما لا يخفى.
والعبد، لغة، الإنسان مطلقا والمملوك والعبودية الذل والخضوع والرق والطاعة، كالعبادة والعبودة.
قال ابن القيّم في (طريق الهجرتين) : أكمل الخلق أكملهم عبودية.
وأعظمهم شهودا. لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين.
ولهذا كان من
دعائه صلى الله عليه وسلم: أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك.
ثم قال: ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة، وأعظمهم عنده جاها، وأرفعهم عنده منزلة لتكميله مقام العبودية والفقر. وكان
يقول: أيها الناس! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي. إنّما أنا عبد.
وكان
يقول «١» : لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم. إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله.
وذكره سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته: مقام الإسراء، ومقام الدعوة، ومقام التحدي.
فقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: ١٩] . وقال وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: ٢٣] .
وفي حديث الشفاعة: أنّ المسيح يقول لهم: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فنال ذلك بكمال عبوديته لله، وبكمال مغفرة الله له.
انتهى.
وقوله تعالى مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني مسجد مكة المكرمة. سمي حراما، كبلده، لكونه لا يحل انتهاكه بقتال فيه، ولا بصيد صيده، ولا بقطع شجره ولا كلئه. وقوله سبحانه إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هو مسجد بيت المقدس، وكان يعرف
(١) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، ٤٨- باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ، حديث رقم ١٢١٤.