قال ابن كثير: رواية عبد الله في الصحيح المتقدمة، تقتضي فيما يظهر ببادئ الرأي، أن هذه الآية مدينة. وأنها إنما أنزلت حين سأله اليهود عن ذلك المدينة. مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية. كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك. أو إنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي هذه الآية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ انتهى.
وقد روى ابن جرير عن قتادة: أن الروح في الآية هو جبريل عليه السلام.
وحكاه عن ابن عباس.
أقول: الذي أراه متعينا في الآية، لسابقها ولا حقها، أن المراد بالروح الوحي بالقرآن، وهو قريب من قول قتادة. ووجه تعينه أن هذه الآية في سياق ذكر القرآن وتنزيله والمنّة بكونه شفاء ورحمة، وقد سمى تعالى الوحي بالقرآن روحا: قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] وقال تعالى:
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر: ١٥] فكانوا إذا سمعوا الروح، وصدعوا بالإيمان به، يتعنتون في السؤال عنه، استبعادا لأن يكون من لدنه سبحانه، ولأن يكون بشر مثله مبعوثا بأمره تعالى أن يبين لهم أنه وحي أوحاه الله، وأنه روح من لدنه، وإلقاء من أمره. ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي [يونس: ٥٣] وقوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: ١- ٣] ، أي بعضهم ينكره وبعضهم يتردد في صحته.
وذلك لأنهم قوم جاهليون، لا عهد لهم بالعلوم والمعارف، فضلا عن الوحي وخصائص النبوة، للأمّية والجهالة الفاشيتين فيهم. كما أشير إليه بقوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي مما تناله مشاعركم وتصل إليه فطنكم. وما هو في جنب معلومات لا تحصى، إلا كالقطرة من البحر والذرة من الكثيب. والقاعدة أن القرآن متجاوب الأطراف، يفسر بعضه بعضا.
وجميع ما ذكره المتقدمون، غير ما ذكرناه، جري مع ما يحتمله نظم الآية الكريمة. وكذا رواية ابن مسعود أنه أجيب بها اليهود، لأنها لما كان لها وجوه من المعاني، ومنها ما سألوا عنه، ألقموا بها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم أشار تعالى إلى نعمته فيما أوحاه من هذا التنزيل والهداية به، بقوله سبحانه: