ومصداق هذا قول الله عز وجل لنبيّه صلى الله عليه وسلم: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النساء: ١١٣] ، فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق. لأن محصوله عن الله تعالى بلا واسطة ووسيلة. وبيان هذه الكلمة يوجد في قصة آدم والملائكة عليهم الصلاة والسلام. فإنهم طول عمرهم حصلوا بفنون الطرق كثير العلوم. حتى صاروا أعلم المخلوقين وأعرف الموجودات. وآدم لما جاء، ما كان عالما. لأنه ما تعلم ولا رأى معلما. فتفاخرت الملائكة عليه وتجبروا وتكبروا وقالوا وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: ٣٠] ، ونعلم حقائق الأشياء. فرجع آدم إلى باب خالقه وأخرج قلبه عن جملة المكونات، وأقبل بالاستعانة على الرب تعالى، فعلمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [البقرة: ٣١] ، أو صغر حالهم عند آدم وقلّ علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في بحر العجز:
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: ٣٢] ، فقال تعالى: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ [البقرة: ٣٣] ، فأنبأهم آدم عن مكنونات العلم ومستترات الأمر.
فتقرر الأمر عند العقلاء أن العلم الغيبيّ المتولد عن الوحي، أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة. صار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل، حتى أغلق الله باب الوحي في عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فكان رسول الله خاتم النبيين، وكان أعلم الناس وأفصح العرب والعجم، وكان
يقول:(أدبني ربي فأحسن تأديبي)
وقال لقومه «١» : (أنا أعلمكم بالله وأخشاكم لله)
وإنما كان علمه أكمل وأشرف وأقوى، لأنه حصل عن التعليم الربانيّ، وما اشتغل قط بالتعلم والتعليم الإنسانيّ فقال تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: ٥] .
والوجه الثاني- هو الإلهام. والإلهام تنبيه النفس الكليّ للنفس الجزئيّ على قدر صفاته وقبوله وقوته واستعداده. والإلهام أثر الوحي فإن الوحي هو تصريح الأمر الغيبيّ. والإلهام هو تعريضه. والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويّا. والذي عن الإلهام يسمى علما لدنّيّا. والعلم اللدنّي هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري. وإنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف فارغ لطيف. وذلك أن العلوم كلها محصولة في جوهر النفس الكليّ الأوّليّ الذي هو من الجواهر المفارقة الأولية المحضة، بالنسبة إلى العقل الأول كنسبة حواء إلى آدم
(١) أخرجه البخاري في: النكاح، ١- باب الترغيب في النكاح، حديث رقم ٢٠٩٩، عن أنس بن مالك.