من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين. ولكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنه بربه، وثقته به، وفّى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه. حتى جاءه الوحي بما أقرّ عينه وسر قلبه وعظم قدره وظهر لأمته احتفال ربه به واعتناؤه بشأنه.
ولما جاء الوحي ببراءتها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك، فحدوا ثمانين ثمانين. ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبيّ، مع أنه رأس الإفك. فقيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة. والخبيث ليس أهلا لذلك. وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، فيكفيه ذلك عن الحد. وقيل: بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه، ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه وقيل: الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو بينة. وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد فإنه إنما كان يذكر من أصحابه ولم يشهدوا عليه. ولم يكن يذكره بين المؤمنين. وقيل: حد القذف حق الآدميّ، لا يستوفي إلا بمطالبته: وإن قيل إنه حق لله فلا بدّ من مطالبة المقذوف وعائشة لم تطالب به ابن أبيّ. وقيل: بل ترك حدّه لمصلحة هي أعظم من إقامته.
كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا. وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام. فإنه كان مطاعا فيهم رئيسا عليهم. فلم يؤمن إثارة فتنة في حده، ولعله ترك لهذه الوجوه كلها. فجلد مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش. وهؤلاء من المؤمنين الصادقين، تطهيرا لهم وتكفيرا. وترك عدو الله ابن أبيّ إذا فليس هو من أهل ذاك- هذا ما أفاده الإمام ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) وهو خلاصة الروايات في هذا الباب.
ثم قال رحمه الله: ومن تأمل قول الصديقة، وقد نزلت براءتها، فقال لها أبوها:
قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله! لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله- علم معرفتها وقوة إيمانها وتوليتها النعمة لربها. وإفراده بالحمد في ذلك المقام، وتجديدها التوحيد، وقوة جأشها وإدلالها ببراءة ساحتها، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له. ولثقتها بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، قالت ما قالت. إدلالا للحبيب على حبيبه، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإدلال، فوضعته موضعه. ولله! ما كان أحبها إليه حين قالت: لا أحمد إلا الله فإنه هو الذي أنزل براءتي. ولله! ذلك الثبات والرزانة منها، وهو أحب شيء إليها، ولا صبر لها عنه، وقد تنكر قلب حبيبها لها شهرا. ثم صادفت الرضاء منه والإقبال، فلم تبادر إلى القيام إليه، والسرور برضاه وقربه، مع شدة محبتها له. وهذا غاية الثبات والقوة. انتهى.