للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم قال ابن تيمية رحمه الله وكما عظّم الله الفاحشة، عظم ذكرها بالباطل- وهو القذف. فقال بعد ذلك وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور: ٤] الآية. ثم ذكر رمي الرجل امرأته وما أمر فيه من التلاعن. ثم ذكر قصة أهل الإفك وبيّن ما في ذلك من الخير للمقذوف، وما فيه من الإثم للقاذف، وما يجب على المؤمنين إذا سمعوا ذلك أن يظنوا بإخوانهم من المؤمنين الخير، ويقولون: هذا إفك مبين. لأن دليله كذب ظاهر. ثم أخبر أنه قول بلا حجة فقال: لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ. فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النور: ١٣] ، ثم أخبر أنه لولا فضله عليهم ورحمته لعذبهم بما تكلموا به. وقوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور: ١٥] . فهذا بيان لسبب العذاب. وهو تلقي الباطل بالألسنة، والقول بالأفواه.

وهما نوعان محرمان: القول بالباطل والقول بلا علم. ثم قال سبحانه: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النور:

١٦] . فالأول تحضيض على الظن الحسن، وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف. ففي الأول قوله: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: ١٢] ،

وقوله صلى الله عليه وسلم «١»

(إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)

وقوله: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النور: ١٢] ، دليل على حسن مثل هذا الظن الذي أمر الله به

وفي الصحيح قوله «٢» لعائشة (ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا) ؟

فهذا يقتضي جواز بعض الظن، كما احتج البخاري بذلك، لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الرادع له عن فعل الفاحشة، يجب أن يظن به الخير دون الشر.

وفي الآية نهي عن تلقي مثل هذا باللسان، ونهي عن قول الإنسان ما ليس له به علم، لقوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: ٣٦] ، والله جعل في فعل الفاحشة والقذف من العقوبة، ما لم يجعله في شيء من المعاصي. لأنه جعل فيه الرجم وقد رجم قوم لوط إذ كانوا هم أول من فعل فاحشة اللواط. وجعل العقوبة على القاذف بها ثماني جلدة، والرمي بغيرها فيه الاجتهاد. ويجوز عند بعض العلماء أن يبلغ الثمانين، كما

قال عليّ: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري

. وكما قال عبد الرحمن بن عوف: إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى.


(١) أخرجه البخاري في: الوصايا، ٨- باب قول الله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ.
(٢) أخرجه البخاري في: الأدب، ٥٩- باب ما يكون من الظن، حديث رقم ٢٣٣٤، عن عائشة.

<<  <  ج: ص:  >  >>