للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عن المنكر مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلمه لا يمكنه النهي عنه. وقد أوجب الله علينا فعل المعروف وترك المنكر. فإن حب الشيء وفعله، وبغض ذلك وتركه لا يكون إلا بعد العلم بهما، حتى يصح القصد إلى فعل المعروف وترك المنكر. فإن ذلك مسبوق بعلمه، فمن لم يعلم الشيء لم يتصور منه حب له ولا بغض، ولا فعل ولا ترك. لكن فعل الشيء والأمر به يقتضي أن يعلمه علما مفصلا يمكن معه فعله والأمر به إذا أمر به مفصّلا. ولهذا أوجب الله على الإنسان معرفة ما أمر به من الواجبات مثل صفة الصلاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا أمر بأوصاف فلا بد من العلم بثبوتها. فكما أنّا لا نكون مطيعين إذا علمنا عدم الطاعة، فلا نكون مطيعين إذا لم نعلم وجودها. بل الجهل بوجودها كالعلم بعدمها. وكل منهما معصية. فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع الأموال الربوية. وأما معرفة ما يتركه وينهى عنه فقد يكتفي بمعرفته في بعض المواضع مجملا. فإن الإنسان يحتاج إلى معرفة المنكر وإنكاره. وقد يحتاج إلى الحجج المبينة لذلك. وإلى الجواب عما يعارض به أصحابها، وإلى دفع أهوائهم.

وذلك يحتاج إلى إرادة جازمة وقدرة على ذلك. ولا يكون ذلك إلا بالصبر، كما قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: ١- ٣] ، وأول ذلك أن تذكر الأقوال والأفعال على وجه الذم لها والنهي عنها. وبيان ما فيها من الفساد. فإن الإنكار بالقلب واللسان، قبل الإنكار باليد، وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والعصاة، كما أن فيما يذكره عن أهل العلم والإيمان على وجه المدح والحب وبيان منفعته والترغيب فيه، نحو قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا [مريم: ٨٨- ٨٩] الآيات. وهذا كثير جدا. فالذي يحب أقوالهم وأفعالهم هو منهم. إما كافر وإما فاجر. وليس منهم من هو بعكسه. ولكن لا يثاب على مجرد عدم ذلك. وإنما يثاب على قصده لترك ذلك وإرادته، وذلك مسبوق بالعلم بقبح ذلك وبغضه لله. وهذا العلم والقصد والبغض هو من الإيمان الذي يثاب عليه، وهو أدنى الإيمان، كما

قال صلى الله عليه وسلم «١»

(من رأى منكم منكرا) إلى قوله: (وذلك أضعف الإيمان)

وتغيير القلب يكون بالبغض لذلك وكراهته، وذلك لا يكون إلا بعد العلم به وبقبحه. ثم بعد ذلك يكون الإنكار باللسان ثم يكون باليد.

والنبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (وذلك أضعف الإيمان)


(١) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٧٨، عن أبي سعيد الخدري.

<<  <  ج: ص:  >  >>