للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفاحشة وإن كانت مما تنكره القلوب فإنها تشتهيها النفوس. وكذلك البغي، قرن بها لأنه أبعد عن محبة النفوس. ولهذا كان جنس عذاب صاحبه أعظم من جنس عذاب صاحب الفحشاء. ومنشؤه من قوة الغضب. ولكل من النفوس لذة بحصول مطلوبها. فالفواحش والبغي مقرونان بالمنكر. وأما الإشراك والقول على الله بلا علم، فإنه منكر محض. ليس في النفوس ميل إليهما. بل إنما يكونان عن عناد وظلم. فهما منكر محض بالفطرة وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور: ٢١] ، سواء كان الضمير عائدا إلى الشيطان أو إلى المتّبع. فإن من أتى ذلك، فإن كان الشيطان أمره فهو متبعه عابد له. وإن كان الآتي هو الآمر. فالأمر بالفعل أبلغ من فعله. فمن أمر بها غيره رضيها لنفسه.

ومن الفحشاء والمنكر استماع العبد مزامير الشيطان. والمغنّي هو مؤذنه الذي يدعو إلى طاعته فإن الغناء رقية الزنى. وكذلك من اتباع خطوات الشيطان، القول على الله بلا علم. كحال أهل البدع والفجور وكثير ممن يستحل مؤاخاة النساء والمرد وإحضارهم في سماع الغناء ودعوى محبة صورهم لله وغير ذلك، مما فتن به كثير من الناس فصاروا ضالين مضلين. ثم إنه سبحانه نهى المظلوم بالقذف، أن يمنع ما ينبغي فعله من الإحسان إلى القرابة والمساكين وأهل التوبة. وأمره بالعفو. فإنه كما يحب أن يغفر له فليغفر، ولا ريب أن صلة الأرحام واجبة، وإيتاء المساكين واجب، ومعونة المهاجرين واجبة، فلا يجوز ترك ما يجب من الإحسان للإنسان بمجرد ظلمه: كما لا يمنع ميراثه وحقه من الصدقات والفيء، بمجرد ذنب من الذنوب وقد يمنع من ذلك لبعض الذنوب.

وفي الآية دليل على وجوب الصلة والنفقة وغيرها لذوي الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب.

فإنه قد ثبت في الصحيح «١» عن عائشة في قصة الإفك، أن أبا بكر الصديق حلف ألا ينفق على مسطح بن أثاثة، وكان أحد الخائضين في الإفك في شأن عائشة. وكانت أم مسطح بنت خالة أبي بكر. وقد جعله الله من ذوي القربى الذين نهى عن ترك إيتائهم. والنهي يقتضي التحريم. فإذا لم يجز الحلف على ترك الفعل، كان الفعل واجبا، لأن الحلف على ترك الجائز جائز. انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.


(١) أخرجه البخاري في: الشهادات، ١٥- باب تعديل النساء بعضهن بعضا، حديث ١٢٦٦، من حديث الإفك الطويل.

<<  <  ج: ص:  >  >>