ولكن شياطينهم هم الذين كفروا، وصاروا يعلمون الناس السحر، ويدعون أنه أنزل على هاروت وماروت، اللذين سمّوهما ملكين، ولم ينزل عليهما شيء، وإنما كانا رجلين يدّعيان الصلاح لدرجة أنهما كانا يوهمان الناس أنهما لا يقصدان إلا الخير، ويحذرانهم من الكفر، وبلغ من أمر ما يتعلمونه منهما من طرق الحيل والدهاء أنهم يفرقون به بين المجتمعين، ويحلون به عقد المتحدين. فأنت ترى من هذا المقام كله للذم، فلا يصح أن يرد فيه مدح هاروت وماروت. والذي يدل على صحة ما قلناه فيهما أن القرآن أنكر نزول أي ملك إلى الأرض ليعلم الناس شيئا من عند الله، غير الوحي إلى الأنبياء، ونص نصّا صريحا أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني نوعهم فقال وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء: ٧] ، وقال منكرا على من طلب إنزال الملك وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ [الأنعام: ٨] ، وقال في سورة الفرقان وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً- إلى قوله- فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان: ٧- ٩] .
وللقصاص في هاروت وماروت في أحاديث عجيبة. فزعموا أنهما كان ملكين من الملائكة، وأنهما لما نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي، أنكرا ذلك وأكبراه ودعوا على أهل الأرض. فأوحى الله إليهما: إني لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني، فقالا: يا رب، لو ابتليتنا لم نفعل، فجرّبنا.
فأهبطهما إلى الأرض، وابتلاهما الله بشهوات بني آدم، فمكثا في بلدة كانت فيها فاجرة تسمى «الزهرة» فدعواها إلى الفاحشة وواقعاها بعد أن شربا الخمر، وقتلا النفس وسجدا للصّنم، وعلماها الاسم الأعظم، الذي كانا به يعرجان إلى السماء، فتكلمت المرأة بذلك الاسم، وعرجت إلى السماء، فمسخها الله تعالى، وصيرها هذا الكوكب المسمى بالزهرة. ثم إن الله تعالى عرّف هاروت وماروت قبيح ما فيه وقعا، ثم خيّرهما بين عذاب الآخرة آجلا، وبين عذاب الدنيا عاجلا، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة، وهما يعلّمان الناس السحر، ويدعوان إليه، ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلم السحر خاصة.
وهذه القصة من اختلاق اليهود وتقولاتهم. ولم يقل بها القرآن قط، وإنما ذكرها التلمود، كما يعلم من مراجعة «مدارس يدكوت» في الإصحاح الثالث والثلاثين، وجاراه جهلة القصاص من المسلمين، فأخذوها منه.
قال الرازيّ في تفسيره: إن القصة التي ذكروها باطلة من وجوه: