الدين بن العربيّ، شيخ الصوفية، في صفحة ٢٢٦ من الجزء الرابع من (فتوحاته) عند الكلام على هذه الآية: إن الله تعالى لم يترك لعبده حجة عليه. بل لله الحجة البالغة.
فلا يتوسل إليه بغيره. فإن التوسل إنما هو طلب القرب منه. وقد أخبرنا الله أنه قريب. وخبره صدق. انتهى ملخصا.
على أن الذين يزعمون جواز شيء مما عليه العامة اليوم في هذا الشأن، إنما يتكلمون فيه بالمبهمات، ويسلكون طرقا من التأويل لا تنطبق على ما في نفوس الناس. ويفسرون الجاه والواسطة بما لا أثر له في مخيلات المعتقدين. فأيّ حالة تدعوهم إلى ذلك؟ وبين أيديهم القرون الثلاثة الأولى، ولم يكن فيها شيء من هذا التوسل ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه، وكتب السنة والسير بين أيدينا شاهدة بذلك، فكل ما حدث بعد ذلك فأقل أوصافه أنه (بدعة) في الدين وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وأسوأ البدع ما كان فيه شبهة الإشراك بالله تعالى وسوء الظن به.
كهذه البدع التي نحن بصدد الكلام فيها، وكأن هؤلاء الزاعمين يظنون أن في ذلك تعظيما لقدر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو الأنبياء أو الأولياء. مع أن أفضل التعظيم للأنبياء هو الوقوف عند ما جاءوا به، واتقاء الزيادة عليهم فيما شرعوه بإذن ربهم. وتعظيم الأولياء يكون باختيار ما اختاروه لأنفسهم. وظنّ هؤلاء الزاعمين أن الأنبياء والأولياء يفرحون بإطرائهم وتنظيم المدائح وعزوها إليهم، وتفخيم الألفاظ عند ذكرهم، واختراع شؤون لهم مع الله، لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا رضيها السلف الصالح. هذا الظن بالأنبياء والأولياء هو أسوأ الظن. لأنهم شبهوهم في ذلك بالجبارين من أهل الدنيا، الذين غشيت أبصارهم ظلمات الجهل قبل لقاء الموت، وليس يخطر بالبال أن جبارا لقي الموت وانكشف له الغطاء عن أمر ربه فيه، يرضى أن يفخمه الناس بما لم يشرعه الله. فكيف بالأنبياء والصديقين؟ إن لفظ (الجاه) الذي يضيفونه إلى الأنبياء والأولياء عند التوسل، مفهومه العرفيّ هو السلطة. وإن شئت قلت نفاذ الكلمة عند من يستعمل عليه أو لديه، فيقال فلان اغتصب مال فلان بجاهه، ويقال فلان خلص فلانا من عقوبة الذنب بجاهه، لدى الأمير أو الوزير مثلا. فزعم زاعم أن لفلان جاها عند الله بهذا المعنى، إشراك جليّ لا خفيّ. وقلما يخطر ببال أحد من المتوسلين معنى اللفظ اللغويّ، وهو المنزلة والقدر. على أنه لا معنى للتوسل بالقدر والمنزلة نفسها. لأنها ليست شيئا ينفع. وإنما يكون لذلك معنى، لو أوّلت بصفة من صفات الله، كالاجتباء والاصطفاء، ولا علاقة لها بالدعاء ولا يمكن لمتوسل أن يقصدها في دعائه. وإن كان (الآلوسيّ) بنى تجويز التوسل بجاه النبيّ خاصة على