للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما القائلون بالقول الأول، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلا جدا. فإن قالوا:

الدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ وهذا، إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة، استقام. فإنه نقل أن التقحط لما اشتد، بمكة مشى إليه أبو سفيان وناشده بالله وبالرحم، ووعده أنه إن لهم وأزال الله عنهم تلك البلية، أن يؤمنوا به. فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم. أما إذا حلمناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة، لم يصحّ ذلك. لأن عند ظهور علامات القيامة. لا يمكنهم أن يقولوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ولم يصح أيضا أن يقال لهم إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ والجواب: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جاريا مجرى ظهور سائر علامات القيامة، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فتحدث هذه الحالة. ثم إن الناس يخافون جدا فيتضرعون. فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق. وإذا كان هذا محتملا، فقد سقط ما قالوه، والله أعلم. انتهى كلام الرازي.

وهكذا رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني، ذهابا إلى ما صح عن ابن عباس، ترجمان القرآن ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان وغيرهما، التي أوردوها، مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة، على أن الدخان من الآيات المنتظرة. مع أنه ظاهر القرآن، قال الله تبارك وتعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أي بيّن واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه، إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله تعالى:

يَغْشَى النَّاسَ أي يتغشاهم ويعمّهم. ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه يَغْشَى النَّاسَ وقوله تعالى: هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. كقوله عزّ وجلّ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطور: ١٣- ١٤] ، أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه، سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام: ٢٧] ، وكذا قوله جلّ وعلا وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: ٤٤] . وهكذا قال جلّ جلاله.

<<  <  ج: ص:  >  >>