مثل هذه الآية، أي إن القتل عند اللقاء، ثم بعد انقضاء الحرب المن أو الفداء لا غير، إلا أن تبدو مصلحة في القتل، فتلك من باب آخر.
وثم قول ثالث: وهو كون الآية محكمة مع تفويض الأمر إلى الإمام، وأن ذكر المن والفداء لا ينافي جواز القتل، لعلمه من آيات أخر، لا سيما ومرجع الأمر إلى المصلحة. وهذا القول هو الذي أختاره. وإذا دار الأمر في الآي بين الإحكام والنسخ.
فالأول هو المرجح. وقد لا يتعارض قول من قال بالنسخ مع الذاهب إلى الإحكام، لما قدمناه في مقدمة التفسير، من تغاير اصطلاح السلف والأصوليين في النسخ.
ثم رأيت ابن جرير سبقني في ترجيح ذلك، وعبارته:
والصواب من القول عندنا في ذلك، أن هذه الآية محكمة غير منسوخة. وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ، أنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر. وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المن والفداء والقتل إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى، وذلك قوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] ، الآية. بل ذلك كذلك، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب، فيقتل بعضا، ويفادي ببعض، ويمن على بعض، مثل يوم بدر: قتل عقبة بن أبي معيط، وقد أتي به أسيرا. وقتل بني قريظة وقد نزلوا على حكم سعد، وصاروا في يده سلما، وهو على فدائهم والمن عليهم قادر، وفادى بجماعة، أسارى المشركين الذين أسروا ببدر.
ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ، وهو أسير في يده. ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب، من لدن أذن الله له بحربهم، إلى أن قبضه إليه صلّى الله عليه وسلّم دائما ذلك فيهم.
وإنما ذكر جل ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى، فخص ذكرهما فيها، لأن الأمر بقتلهم والإذن منه بذلك، قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكررا، فأعلم نبيه صلّى الله عليه وسلّم بما ذكر في هذه الآية من المن والفداء، ما له فيهم مع القتل. انتهى كلام ابن جرير.
الثالث- من فوائد الآية أيضا جواز تخلية سبيل المشركين، إذا ضعفت شوكتهم، وأمنت مفسدتهم، لأن ذلك من لوازم المن وقبول الفداء، والقول بإبادة خضرائهم من غير تفصيل، ينافيه نص هذه الآية، وقبول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الجزية من مجوس هجر وهم مشركون، فتفهّم.