للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثاني- أن يكون مبتدأ، خبره لَهُمْ أَجْرُهُمْ. والشُّهَداءُ حينئذ إما الأنبياء الذين يشهدون على قومهم بالتبليغ أو الذين يشهدون للأنبياء على قومهم، أو الذين قتلوا في سبيل الله. واختار الوجه الثاني ابن جرير، قال: لأن الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم (شهيد) لا بمعنى غيره، إلا أن يراد به شهيد على ما آمن به وصدقه، فيكون ذلك وجها، وإن كان فيه بعض البعد، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه إذا أطلق بغير وصل فتأويل قوله: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ إذن، والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، أو أهلكوا في سبيله، عند ربهم، لهم ثواب الله في الآخرة ونورهم. انتهى.

ثم رأيت لابن القيّم في (طريق الهجرتين) بسطا لهذين الوجهين في بحث الصديقية. ننقله لنفاسته. قال رحمه الله في مراتب المكلفين في الآخرة وطبقاتهم:

الطبقة الرابعة- ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علما وعملا، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم. وهذه أفضل مراتب الخلق، بعد الرسالة والنبوة، وهي مرتبة الصديقية. ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء، فقال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: ٦٩] .

فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة. وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول وأمته. فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه. وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ، قيل: إن الوقف على قوله: هُمُ الصِّدِّيقُونَ ثم يبتدئ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ فيكون الكلام جملتين، أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون، والإيمان التام يستلزم العلم والعمل، والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه. وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين، هنا، وفي سورة النساء، وهكذا جاء ذكرهم مقدما على الشهداء في

كلام النبيّ «١» في قوله: (اثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصديق وشهيد)

ولهذا كان نعت الصديقية وصفا لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق. ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتا له رضي الله عنه.


(١)
أخرجه البخاري في: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ٥- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا، حديث ١٧٢٨، عن أنس.

<<  <  ج: ص:  >  >>