فهذا التوجيه أولى أن تحمل الآية عليه. والله أعلم. وقوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا إنكار لتسويتهم بينهما. إذ الحل مع الحرمة ضدان. فإنّى يتماثلان؟ ودلالة على أن القياس يهدمه النص. لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه.
قال الرازيّ: إن نفاة القياس يتمسكون بهذا الحرف. قالوا: لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة. فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس. وذكر القفال رحمه الله الفرق بين البابين فقال: من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين، فقد جعل ذات الثوب مقابلا بالعشرين. فلما حصل التراضي على هذا التقابل، صار كل واحد منهما مقابلا للآخر في المالية عندهما. فلم يكن أخذ من صاحبه شيئا بغير عوض. أما إذا باع العشرة بالعشرين فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض، ولا يمكن أن يقال: إن عوضه هو الإمهال في مدة الأجل. لأن الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة. فظهر الفرق بين الصورتين. وقد أخرج أبو نعيم في (الحلية) عن جعفر بن محمد أنه سئل: لم حرم الله الربا؟ قال لئلا يتمانع الناس المعروف. أي الإحسان الذي في القرض إذ لو حلّ درهم بدرهمين ما سمح أحد بإعطاء درهم بمثله.
فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ أي بلغه وعظ وزجر كالنهي عن الربا مِنْ رَبِّهِ متعلق ب (جاءه) أو بمحذوف وقع صفة ل (موعظة) . والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة للإشعار بكون مجيء الموعظة للتربية فَانْتَهى عطف على (جاءه) أي فاتعظ بلا تراخ، وتبع النهي فَلَهُ ما سَلَفَ أي ما تقدم أخذه قبل التحريم ولا يسترد منه وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إن شاء أخذه لظهور الفرق وإن شاء عفا عنه. لأن الفرق، وإن ظهر لأرباب النظر، يجوز أن يخفى على العوام وَمَنْ عادَ أي إلى تحليل الربا بعد النص فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لكفرهم بالنص، وردهم إياه بقياسهم الفاسد، بعد ظهور فساده. ومن أحل ما حرم الله عزّ وجلّ فهو كافر. فلذا استحق الخلود. وبهذا تبين أن لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق. حيث بنوا على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة. ولا يخفى أنه لا يساعدهم على ذلك الظاهر الذي استدلوا به. فإن الذي وقع العود إليه محمول على ما تقدم.
كأنه قال: ومن عاد إلى ما سلف ذكره، وهو فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه