وطلب فهمه ومعرفة معناه، فلم يذمه الله، بل أمر بذلك ومدح عليه. يبيّن ذلك أن التأويل، قد روي أن من اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلم كحييّ بن أخطب وغيره من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور تأويل بقاء هذه الأمة، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عاما. لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل، بعد إسقاط المكرر. وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر. وروي أن من النصارى الذين وفدوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلم في وفد نجران من تأوّل (أنا ونحن) على أن الآلهة ثلاثة. لأن هذا ضمير جمع. وهذا تأويل في الإيمان بالله. فأولئك تأولوا في اليوم الآخر. وهؤلاء تأولوا في الله. ومعلوم أن (أنا ونحن) من المتشابه. فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه، ويراد الواحد المعظم نفسه، الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى. فصار هذا متشابها لأن اللفظ واحد، والمعنى متنوع، والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه، وبعض المتواطئ أيضا من المتشابه. ويسميها أهل التفسير (الوجوه والنظائر) وصنفوا كتب الوجوه والنظائر.
فالوجوه في الأسماء المشتركة، والنظائر في الأسماء المتواطئة. وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعا في الأسماء المشتركة، فهي نظائر باعتبار اللفظ، ووجوه باعتبار المعنى، وليس الأمر على ما قاله، بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله. والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة: ١٦٣] . إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه: ١٤] . مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [المؤمنون: ٩١] . وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الفرقان: ٢] . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: ٣- ٤] . ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه، وحرفوا الكلم عن مواضعه. وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها. وذلك أن الكلام نوعان: إنشاء فيه الأمر، وإخبار. فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به، كما قال من قال من السلف: إن السنة هي تأويل الأمر.
قالت عائشة رضي الله عنها «١» : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي
. يتأول القرآن، تعني قوله:
(١) أخرجه البخاريّ في: الأذان، ١٣٩- باب التسبيح والدعاء في السجود.