كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: ٧٥] حتى إذا وضح السبيل في مقطع الحق، وحضر وقت التصريح بما ينبغي التصريح به، فلا بد منه. وإليه الإشارة بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة: ٢٦] وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب: ٥٣] .
ومنها التأني في الأمور والجري على مجرى التثبت والأخذ بالاحتياط، وهو المعهود في حقنا فلقد أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في عشرين سنة، حتى قال الكفار: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: ٣٢] . فقال الله:
كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. وقال: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: ١٠٦] . وفي هذه المدة كان الإنذار يترادف والصراط يستوي بالنسبة إلى كل وجهة وإلى كل محتاج إليه.
وحين أبى من أبى من الدخول في الإسلام بعد عشر سنين أو أكثر، بدءوا بالتغليظ بالدعاء. فشرع الجهاد لكن على تدريج أيضا. حكمة بالغة وترتيبا يقتضيه العدل والإحسان. حتى إذا كمل الدين ودخل الناس فيه أفواجا ولم يبق لقائل ما يقول، قبض الله نبيه إليه، وقد بانت الحجة ووضحت الحجة واشتد أسّ الدين وقوي عضده بأنصار الله. فلله الحمد كثيرا على ذلك.
ومنها كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع والدعاء. فقد بيّن مساق القرآن آدابا استقرئت منه. وإن لم ينص عليها بالعبارة، فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير. فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في القرآن، في الغالب، إلا ب (يا) ، المشيرة إلى بعد المنادى. لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد، موصوف بالتعالي عنهم والاستغناء. فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعي قرب الإجابة. منها إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى وأنه حاضر مع المنادي غير غافل عنه، فدل على استشعار الراغب هذا المعنى إذ لم يأت في الغالب إلا: ربنا ربنا كقوله: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا [البقرة: ٢٨٦] رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [البقرة: ١٢٧] ، رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي [آل عمران: ٣٥] ، رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: ٢٦٠] .