للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حكم فالأمر باتباعه يكون في مأخذ ذلك الوصف. فإذا قيل اقتد بالمصلي فالمراد في صلاته. فكذا سبيل المؤمنين، يعني به سبيلهم في الإيمان، لا غير. فلا دلالة في الآية على اتباعهم في غيره. وردّ بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول. ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف، تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضا. فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه. فسبيل المؤمنين، وإن فسر بما هم عليه من الدين، يعمّ الأصول والفروع، الكل والبعض. على أن الجزاء مرتب على كل من الأمرين المذكورين في الشرط، لا على المجموع. للقطع بأن مجرد مشاقة الرسول كافية في استحقاق الوعيد، معنى على أن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين. لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل، البتة. انتهى.

ورأيت للإمام تقيّ الدين بن تيمية في كتابه (الفرقان بين الحق والباطل) مقالة بديعة في هذه الآية والإجماع. أجال فيها جواد قلمه وأجاد. وأطال وأطاب. قال رحمه الله: ما يسميه ناس الفروع والشرع والفقه، فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان.

فما بقي مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلله أو حرمه إلا بيّن ذلك. وقد قاله تعالى:

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: ٣] .

وقال تعالى: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: ١١١] . وقال تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: ٨٩] .

وقال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى: ١٠] . وقال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ [التوبة: ١١٥] . فقد بيّن للمسلمين جميع ما يتقونه. كما قال: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام: ١١٩] . وقال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: ٥٩] . وهو الردّ إلى كتاب الله، أو إلى سنة الرسول، بعد موته. وقوله فَإِنْ تَنازَعْتُمْ شرط. والفعل نكرة في سياق الشرط. فأي شيء تنازعوا فيه ردّوه إلى الله والرسول. ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلا للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه.

وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «١» : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا


(١)
أخرجه ابن ماجة في المقدمة، ١- باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث ٥ ونصه: عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوّفه، فقال «الفقر تخافون؟

<<  <  ج: ص:  >  >>