وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد، فطلبوا إلى الله الفرج منه، كانت طلبتهم إلى الله عند بيته الحرام بمكة، مسلمهم ومشركهم، فيجتمع بمكة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم، وكلهم معظّم لمكة، يعرف حرمتها ومكانها من الله.
قال ابن إسحاق: وكان البيت في ذلك الزمان معروفا مكانه، والحرم قائم فيما يذكرون، وأهل مكة يومئذ العماليق- وإنما سموا (العماليق) لأن أباهم (عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح) - وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة، فيما يزعمون، رجلا يقال له معاوية بن بكر، وكان أبوه حيّا في ذلك الزمان، ولكنه كان قد كبر، وكان ابنه يرأس قومه، وكان السؤدد والشرف من العماليق، فيما يزعمون، في أهل ذلك البيت.
وكانت أم معاوية بن بكر، كلهدة ابنة الخبيري، رجل من عاد. فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا: جهّزوا منكم وفدا إلى مكة فليستسقوا لكم، فإنكم قد هلكتم! فبعثوا عقيل بن عنز ولقيم بن هزّال بن هزيل، وعتيل بن صدّ بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد بن عفير، وكان مسلما يكتم إسلامه، وجلهمة بن الخبيري، خال معاوية بن بكر أخو أمه.
ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صدّ بن عاد الأكبر. فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه، حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلا. فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وصهره.
فلم نزل وفد عاد على معاوية بن بكر، أقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان- قينتان لمعاوية بن بكر- وكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا.
فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتعوّذون بهم من البلاء الذي أصابهم، شق ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري! وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي نازلون عليّ! والله ما أدري كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنوا أنه ضيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا! أو كما قال:
فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرا نغنّيهم به، لا يدرون من قاله، لعل ذلك أن يحركهم!.