وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها ... بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهباءة خادر في مرصد
الثاني- قال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) في فصل جوّد فيه:
الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية والنكت الحكمية ما نصه:
كان الله عزّ وجلّ قد وعد رسوله، وهو صادق الوعد، وأنه إذا فتح مكة، دخل الناس في دينه أفواجا، ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين، اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتأهبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين، ليظهر أمر الله، وتمام إعزازه لرسوله، ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح، وليظهر الله سبحانه لرسوله وعباده، قهره لهذه الشوكة العظيمة، التي لم يلق المسلمون مثلها، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين، وتبدو للمتوسمين.
فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة، مع كثرة عددهم وعددهم، وقوة شوكتهم، ليطامن رؤوسا رفعت بالفتح، ولم تدخل بلده وحرمه، كما دخله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واضعا رأسه، منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه تكاد أن تمس سرجه، تواضعا لربه، وخضوعا لعظمته، واستكانة لعزته أن أحلّ له حرمه وبلده، ولم يحل لأحد قبله، ولا لأحد بعده، وليبين الله لمن قال:(لن نغلب اليوم عن قلة) ، أن النصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصره فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئا، فوليتم مدبرين. فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليها خلع الجبر مع بريد النصر ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [التوبة: ٢٦] وقد اقتضت حكمته أنّ خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: ٥- ٦] . ومنها أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائم أهل مكة، فلم يغنموا منها ذهبا ولا فضة ولا متاعا ولا سبيا ولا أرضا، كما روى أبو داود «١» عن وهب بن منبه قال: سألت جابرا: هل غنموا يوم الفتح شيئا؟ قال: لا!
(١) أخرجه أبو داود في: الخراج والإمارة والفيء، ٢٥- باب ما جاء في خبر مكة، حديث ٣٠٢٣.