للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ليكون ذلك مثال عظة واعتبار، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد. ولا أريد أن أحشر للقارئ تلك الآيات، فإن ذلك يؤدي إلى التطويل، بل أريد أن أجتزئ منها بما يكفل ثبوت الدعوى، وذلك في قوله تعالى: السَّائِحُونَ ... في هذه الآية، ولم يقع لفظ (سائحون) في القرآن الكريم إلا هذه المرة الفذة. ومع ذلك فقد تغلب عليها أهل التفسير، فمنهم من قال هم الصائمون، ومنهم من قال غيره. والصحيح أن (السائحون) معناه السائرون، مأخوذا من السيح وهو الجري على وجه الأرض، والذهاب فيها، وهذه المادة تشعر بالانتشار. يقال: ساح الماء أي جرى وانتشر.

والسيح أيضا الماء الجاري الذاهب بالأرض. ويطلق السائح على معنى يضاد الجامد، وهو المائع المسفوح، لأنه بانمياعه ينتشر في وعائه. وقد عهدنا بألفاظ القرآن أنها يجب حملها على ظواهرها، وعلى معانيها الحقيقة، اللهم ما لم يمنع مانع عقليّ، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة وعليه فيجب حمل لفظ (السائحون) على معناه الظاهر الحقيقي، وهو السائرون الذاهبون في الديار، لأجل الوقوف على الآثار، توصلا للعظة بها والاعتبار، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ. وكذلك عهدنا بالمعنى المجازيّ أنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقيّ، في حال أن الأمر هنا بالعكس، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي. وذلك مثل آية سِيرُوا [الأنعام: ١١ والنمل: ٦٩ والعنكبوت: ٢٠ والروم: ٤٢ وسبأ: ١٨] ، أَوَلَمْ يَسِيرُوا [الروم: ٩ وفاطر: ٤٤ وغافر: ٢١] ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا [يوسف: ١٠٩ والحج: ٤٦ وغافر: ٨٢ ومحمد: ١٠] ، فَسِيرُوا [آل عمران: ١٣٧] و [النحل: ٣٦] ، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ [المزمل: ٢٠] ، وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... [النساء: ١٠٠] الآية- فهذه الآيات هي قرائن نيّرة تؤذن بأن السيح معناه السير. فإنها وإن تكن من مادة أخرى، إلا أن معناها يلاقي معنى السيح. على أننا لا نعدم قرينة على ذلك من نفس المادة، وذلك كآية فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [التوبة: ٢] ، فكلمة (سيحوا) هنا تفسر السَّائِحُونَ في الآية هذه، وهم يقولون: خير ما فسرته بالوارد. وبالجملة، فصرف هذا اللفظ عن ظاهره تكسيل للأمة، وتدبير على فتور همتها، وضعف نشاطها، وحيلولة بينها وبين سعادة الإحاطة بآثار الأمم البائدة، ورؤية عمران المسكونة، الأمر الذي هو الآن الضالة المنشودة عند الغربيين، وفيه ستر لنور الكتاب الذي هو أول مرشد للعالم ألا يألوا جهدا في السير والسياحة، وأن ينقب في البلاد أي تنقيب وسيأتي تتمة لهذا في تفسير آية سائِحاتٍ [التحريم: ٥] في سورة التحريم إن شاء الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>