عمل فلسطين، في قوم رحّالين خصاصين في لسان آخر وطاعة أخرى ودين آخر وأمة أخرى! فلم يكن عند يوسف عليه السلام، علم بعد فراقه أباه بما فعل، ولا حيّ هو أو ميت، أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به، ولا وجد أحدا يثق به، فيرسل إليه، للاختلاف الذي ذكرنا. وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرض الشام ومصر لأمير واحد وملّة واحدة، ولسانا واحدا وأمة واحدة، والطريق سابل، والتجار ذاهبون وراجعون، والرفاق سائرة ومقبلة، والبرد ناهضة وراجعة، فظن كلّ بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ كذلك، ولكن كما قدمنا! ودليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره، واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه، وانقيادهم له للجوع الذي كان عمّ الأرض، وامتيازهم عنده، فانتظر وعد ربّه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجبّ فأتوه ضارعين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه! وأما قول يوسف لإخوته إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ وهم لم يسرقوا الصواع، بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم، فقد صدق عليه السلام لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه، ولم يقل عليه السلام: إنكم سرقتم الصواع، وإنما قال: نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ [يوسف: ٧٢] ، وهو في ذلك صادق لأنه كان غير واجد له فكان فاقدا له بلا شك! وأما خدمته عليه السلام لفرعون فإنما خدمه تقية وفي حق لاستنقاذ الله تعالى بحسن تدبيره، ولعل الملك أو بعض خواصّه، قد آمن به إلّا أن خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير، وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل وإلى حياة النفوس إذ لم يقدر على المغالبة ولا أمكنه غير ذلك، ولا مرية في أن ذلك كان مباحا في شريعة يوسف عليه السلام بخلاف شريعتنا، قال الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: ٤٨] وأما سجود أبويه فلم يكن ذلك محظورا في شريعتهما بل كان فعلا حسنا، وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى. ولعل ذلك السجود كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام. إلّا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك، وأما قوله عليه السلام للذي كان معه في السجن اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف: ٤٢] ، فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد! وليس في قوله ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عزّ وجلّ. لكنه رغّب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضّه عليه! وهذا فرض من وجهين: أحدهما وجوب السعي في كفّ الظلم عنه، والثاني: دعاؤه إلى الخير والحسنات. وأما قوله تعالى فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [يوسف: ٤٢] ، فالضمير الذي في (أنساه) وهو الهاء راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن،