ثم قال عليه الرحمة على قوله الزمخشريّ: فإن قلت قوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها مسبب عن خوف الغصب عليها، فكان حقه أن يتأخر عن السبب، فلم قدم عليه؟ (قلت) النية به التأخير. وإنما قدم للعناية. ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين. فكان بمنزلة قولك. (زيد ظني مقيم) .
فقال عليه الرحمة: كأنه جعل السبب في إعابتها كونها لمساكين. ثم بين مناسبة هذا السبب للمسبب، بذكر عادة الملك في غصب السفن. وهذا هو حد الترتيب في التعليل أن يرتب الحكم على السبب، ثم يوضح المناسبة فيما بعد. فلا يحتاج إلى جعله مقدما، والنية تأخيره. والله أعلم.
ثم قال: ولقد تأملت من فصاحة هذه الآي، والمخالفة بينها في الأسلوب عجبا. ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما، فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى، لأن المراد (ثم عبت) فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه. وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك (أمرنا بكذا أو دبرنا كذا) وإنما يعنون (أمر الملك ودبّر) ويدل على ذلك قوله في الثالثة: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب، ولم تأت على نمط واحد مكرر، يمجها السمع وينبو عنها، ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة. فسبحان اللطيف الخبير.
الثالث- قال الخفاجيّ: في إعادة لفظ (الأهل) هنا، يعني في قوله تعالى:
اسْتَطْعَما أَهْلَها إثر قوله أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ سؤال مشهور. وقد نظمه الصلاح الصفديّ سائلا عنه السبكيّ في قصيدة منها:
رأيت كتاب الله أعظم معجز ... لأفضل من يهدى به الثّقلان
ومن جملة الإعجاز كون اختصاره ... بإيجاز ألفاظ وبسط معاني
ولكنني في (الكهف) أبصرت آية ... بها الفكر، في طول الزمان عناني
وما هي إلا (استطعما أهلها) فقد ... نرى (استطعماهم) مثله ببيان
فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر ... مكان ضمير؟ إن ذاك لشان
يعني أنه عدل عن الظاهر بإعادة لفظ (أهل) ولم يقل (استطعماها) لأنه صفة