لا يسهل عليها التفصّي منه، ولا يقدر على ذلك إلا من رفعه الله فوق العادات، وأعتقه من رق الشهوات، وجعل همته فوق المألوفات. فلا يطبيه (أي يستميله) إلا الحق. ولا يحكم عليه إلف، ولا يغلبه عرف. ذلك هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن يختصه الله بالتأسي به. لهذا، كان الأمر، إذا نهى الله عن مكروه كانت الجاهلية عليه، أو أحل شيئا كانت الجاهلية تحرّمه، بادر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى امتثال النهي بالكف عن المنهيّ عنه، والإتيان بضده. وسارع إلى تنفيذ الأمر بإتيان المأمور به، حتى يكون قدوة حسنة، ومثالا صالحا تحاكيه النفوس، وتحتذيه الهمم، وحتى يخفّ وزر العادة وتخلص العقول من ريب الشبهة. نادى صلّى الله عليه وسلّم «١» في حجة الوداع بحرمة الربا. وأول ربا وضعه ربا عمه العباس. حتى يرى الناس صنيعه بأقرب الناس إليه وأكرمهم عليه، فيسهل عليهم ترك مالهم، وتنقطع وساوس الشيطان من صدورهم، على هذا السنن الإلهي كان عمل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أمر زينب، كبر على العرب أن يفصلوا عن أهلهم من ألصقوه بأنسابهم من أدعيائهم كما دل عليه قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ إلخ فعمد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، على سنته، إلى خرق العادة بنفسه. وما كان ينبغي له، ولا من مقتضى الحكمة، أن يكلف أحد الأدعياء الأباعد عنه، أن يتزوج ثم يأمره بالطلاق ثم يأمر من كان قد تبناه أن يتزوج مطلقته. ففي ذلك من المشقة مع تحكم العادة وتمكن الاشمئزاز من النفوس، ما لا يخفى على أحد. فألهمه الله أن يتولى الأمر بنفسه في أحد عتقائه، لتسقط العادة بالفعل. كما ألغى حكمها بالقول الفصل.
لهذا أرغم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم زينب أن تتزوج بزيد، وهو مولاه وصفيّه. والنبيّ يجد في نفسه أن هذا الزواج مقدمة لتقرير شرع، وتنفيذ حكم إلهيّ. وبعد أن صارت زينب إلى زيد لم يلن إباؤها الأول، ولم يسلس قيادها، بل شمخت بأنفها وذهبت تؤذي زوجها وتفخر عليه بنسبها، وبأنها أكرم منه عرقا وأصرح منه حرية. لأنه لم يجر عليها رقّ كما جرى عليه فاشتكى منها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المرة بعد المرة. وهو عليه السلام مع علوّ مقامه يغلبه الحياء فيتّئد ويتمكّث في تنفيذ حكم الله ولا يعجل، فكان يقول لزيد أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: ٣٧] ، إلى أن غلب أمر الله على أمر الأنفة، وسمح لزيد بطلاقها بعد أن مضّه العيش معها. ثم تزوجها بعد ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليمزّق حجاب تلك العادة، ويكسر ذلك الباب الذي كان مغلقا دون مخالفتها كما قال: