عن الجملة، وذلك في حق الله محال. فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقا، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه.
فإن قال: ذلك تجسيم والتجسيم منتف، قيل: وهذا تجسيم والتجسيم منتف.
فإن قال: أنا أعقل صفة ليست عرضا بغير متحيز، وإن لم يكن له في الشاهد نظير، قيل له: فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير.
فإن نفى عقل هذا نفى عقل ذاك، وإن كان بينهما نوع فرق، لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع. ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع لكن ذاك أيضا مستلزم لنفي الذات، ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء، صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة، وهذا أيضا ليس هو معقول النص، ولا مدلول العقل، وإنما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق.
وأصل ذلك أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة، وهي ألفاظ مجملة. مثل متحيز ومحدد وجسم ومركب، ونحو ذلك، ونفوا مدلولها، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلّمة، ومدلولا عليها بنوع قياس، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء، فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل، إذ الدليل القطعيّ لا يقبل الترك لمعارض راجح، فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص ومن جهة العقل من ناحية أخرى فصاروا أحزابا، تارة يغلّبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة، وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول كهشام بن الحكم الرافضيّ، فإنه قد قيل: أول ما تكلّم في الجسم نفيا وإثباتا من زمن هشام بن الحكم وأبى الهذيل العلاف، فإن أبا الهذيل ونحوه من قدماء المعتزلة نفوا الجسم لما سلكوا من القياس وعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس، واعتقد الأولون إحالة ثبوته، واعتقد هذا إحالة نفيه، وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الإحالة والتناقض.
فما أعلم أحدا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة إلا ولا بد أن يتناقض فيحيل ما أوجب نظيره، ويوجب ما أحال نظيره، إذ كلامهم من عند غير الله، وقد قال الله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: ٨٢] .