للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك، بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئته، ثم جعل أعداءه الذين بدلوا دينه مضاجعيه في حضرته، تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت (كما تظنه الرافضة) - فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه، سواء قالوا إنه قادر على أن ينصرهم ويجعل لهم الدولة والظفر، أو أنه غير قادر على ذلك. فهم قادحون في قدرته أو في حكمته وحمده، وذلك من ظن السوء به. ولا ريب أن الرب الذي فعل هذا بغيض إلى من ظن به ذلك، غير محمود عندهم، وكان الواجب أن يفعل خلاف ذلك، لكن رفوا هذا الظن الفاسد بخرق أعظم منه، واستجاروا من الرمضاء بالنار، فقالوا: لم يكن هذا بمشيئة الله، ولا قدرة على دفعه ونصر أوليائه، فإنه لا يقدر على أفعال عباده، ولا يدخل تحت قدرته، فظنوا به ظن إخوانهم المجوس والثنوية بربهم. وكل مبطل وكافر ومبتدع ومقهور مستذل، فهو يظن بربه هذا الظن، وإنه أولى بالنصر والظفر والعلوّ من خصومه. فأكثر الخلق، بل كلهم، إلا من شاء الله، يظنون بالله غير الحق وظن السوء. فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به. ومن فتش نفسه، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته، لرأيت عنده تعتبا على القدر، وملامة له، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك:

فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا أخالك ناجيا

فليعتن اللبيب الناصح نفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله ويستغفره كل وقت، من ظنه بربه ظن السوء. وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد، الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزّه عن كل سوء، في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه. فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك. وأفعاله كذلك، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل. وأسماؤه كلها حسنى. والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام من قوله تعالى: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ.

ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل بقوله: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي هل لنا من أمر التدبير والرأي من شيء، استفهام على سبيل

<<  <  ج: ص:  >  >>