للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قُلْتُ: مَا يُعْرَفُ بِهِ صِفَة المُحَدِّث العَدْل الَّذِي يَلْزَمُ قَبُولُ خَبَرِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

فَضَرْبٌ مِنْهُ يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ الخَاصَّةُ والعَامَّةُ، وَهُوَ: الصِّحَّة فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، وَأَمَانَتِهِ، وَرَدّ الوَدَائِعِ، وإِقَامَة الفَرَائِضِ، وَتَجَنُّب المَآثِمِ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي عِلْمِهِ.

وَالضَّرْبُ الآخَر: هُوَ العِلْمُ بِمَا يَجِبُ كَوْنُهُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّبْطِ وَالتَّيَقُّظِ، والمَعْرِفَة بِأَدَاءِ الحَدِيثِ وَشَرَائِطِهِ، وَالتَّحَرُّزِ مِنْ أنْ يُدْخِلَ عَلَيهِ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ، وَوُجُوه التَّحَرُّزِ فِي الرِّوَايَةِ، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا لا يَعْرِفُهُ إِلا أَهْلُ العِلْمِ بِهَذَا الشَّأْنِ، فَلا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِ العَامَّةِ، بَلِ التَّعْوِيل فِيهِ عَلَى مَذَاهِبِ النُّقَّادِ لِلرِّجَالِ، فَمَنْ عَدَّلُوهُ وَذَكَرُوا أَنَّهُ يُعْتَمَدُ عَلَى مَا يَرْوِيهِ، جَازَ حَدِيثُهُ، وَمَنْ قَالُوا فِيهِ خافَ ذَلِكَ، وَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنْهُ.

- عرض حديث الراوي الذي حدَّث به عن شيخه على حديث الثقات الآخرين عن ذلك الشيخ.

وبناء على ذلك يصدر أحكامًا حول هذا الراوي، فيقول مثلا: ينفرد عن الثقات، في حديثه نكارة، يُخطئ ويخالف، ونحو ذلك، وقد يقول: أثبت الناس في فلان، أو أكثر الناس عنه.

اختبار حديث الراوي؛ عَنْ سَعِيد بن أَبِي الحَسَن، قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم أَكْثَر حَدِيثًا عَنْهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَأَنَّ مَروَان بَعَثَهُ عَلَى المَدِينَة وَأَرَادَ حَدِيثهُ، فَقَالَ: ارْوِ كَمَا رَوينَا، فَلَمَّا أَبَى عَلَيْهِ تَغَفَّلَهُ، فَأَقْعَدَ لَهُ كَاتِبًا، فَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، وَيَكْتُبُ الكَاتِبُ حَتَّى اسْتَفْرَغَ حَدِيثَهُ أَجْمَع، فَقَالَ مَروَان: تَعْلَمُ أَنَّا قَدْ كَتَبْنَا حَدِيثَكَ أَجْمَع؟ قَالَ: أَوَقَدْ فَعَلْتُمْ، وَإِنْ تُطِيعنِي تَمْحُهُ؟ قَالَ: فَمَحَاهُ.

وعَن ابن عُمَر رَضي اللَّه عَنْهُمَا، أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَهُوَ يُحَدِّث عَن النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم: "مَنْ تَبعَ جِنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ شَهِدَ دَفْنهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ". فَقَالَ ابن عُمَر: يَا أَبَا هُرَيْرَة، انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَة حَتَّى انْطَلَقَ إِلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ المُؤْمِنِين؛ أَنْشُدُك اللَّه، أَسَمِعْت رَسُولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلمِ يَقُولُ: "مَنْ تَبعَ جِنَازَةً فَصَلَّى عَلَيهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَإِنْ شَهِدَ دَفْنَهَا فَلَهُ قيرَاطَان"؟ فَقَالَت: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشْغَلُنَا عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عُرْسٌ، ولا صَفْقٌ بِالأسْوَاقِ، إِنَّمَا كنْتُ أَطْلُبُ مِنْ رَسُولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كَلِمَة يُعَلِّمُنِيهَا، أَوْ أَكْلَةً يُطْعِمُنِيهَا. فَقَالَ ابن عُمَر: يَا أَبَا هُرَيْرَة؛ كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وَأَعْلَمَنَا بِحَدِيثِهِ.

وقد تصدَّى لهذا العلم جَمْع من أهل الحديث، وبرزوا في ذلك، حتى كأنهم خلقوا له، منهم:

شعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعبد اللَّه بن المبارك، ويحيى بن

<<  <  ج: ص:  >  >>