نشأ علم الجرح والتعديل مع نشأة الرواية، وبناءًا على الحديث السابق، فإن النبي صلى اللَّه عليه وسلم هو أول من جرح وعدل، وعلى ذلك المنهج سار المحدثون، فطلبوا الإسناد، وقوَّموا الرواة، وعدَّلوا في ذلك كل العدل، فأعطوا كل راوٍ ما يستحقّه من أوصاف الضبط والعدالة دون محاباة، وضربوا في ذلك أروع الأمثلة في الاحتساب والتجرُّد.
فقد أثنى بعض الصحابة على بعض التابعين، وورد آثار عنهم في ذمِّ بعضهم أيضًا، فقد يكون أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه، هو أول من تثبت في الأخبار، فقد ثبت عَنْ قَبِيصَة بن ذُؤَيْب، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَتِ الجَدَّة إِلَى أَبِي بَكْر الصِّدِّيق تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا؟ فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ نَبِيّ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم شَيئًا، فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ. فَسَأَلَ النَّاسَ، فَقَالَ المُغِيرَة بن شُعْبَة:"حَضَرْتُ رَسُول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أَعْطَاهَا السُّدُسَ"، فَقَالَ أَبُو بَكْر: هَلْ مَعَكَ غَيرُكَ؟ فَقَامَ مُحَمَّد بن مَسْلَمَة، فَقَالَ مِثْلَمَا قَالَ المُغِيرَة بن شُعْبَة، فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْر، ثُمَّ جَاءَتِ الجَدَّةُ الأخْرَى إِلَى عُمَر بن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى شَيْءٌ، وَمَا كَانَ القَضَاءُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ إِلا لِغَيْرِكِ، وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الفَرَائِضِ، وَلَكِنْ هُوَ ذَلِكَ السُّدُس، فَإِنِ اجْتَمَعْتُمَا فِيهِ فَهُوَ بَيْنَكُمَا، وَأيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا.
والغرض من هذا الحديث، هو الدلالة على التثبت من قِبَل أبي بكر رضي اللَّه عنه في الأخبار، ولم يكتفي براوٍ واحد.
وكذلك فعل عمر رضي اللَّه عنه، فقد أخرج البخاري عَنْ أَبِي سَعِيد الخُدرِيّ، قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأنْصَارِ، إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَر ثَلاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَرَجَعْتُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:"إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاثًا فَلَئم يُؤْذَنْ لَهُ، فَلْيَرْجِعْ". فَقَالَ: وَاللَّه لَتُقِيمَنَّ عَلَيهِ بِبَيِّنَةٍ، أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم؟ فَقَالَ أُبَيّ بن كَعْب: واللَّه لا يَقُومُ مَعَكَ إِلا أَصغَرُ القَوْمِ، فَكُنْتُ أَصْغَر القَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ، فَأَخْبَرْتُ عُمَر أَنَّ النَّبِي صلى اللَّه عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ.
قال ابن حبان: وتَبعَ عمر على ذلك التثبت علي رضي اللَّه عنه، باستحلاف من يحدثه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وإن كانوا ثقات مأمونين؛ ليعلمهم تَوَقِّي الكذب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
ثم قال: وأخرج مسلم في مقدمة "صحيحه": عَنْ طَاوس، قَالَ: جَاءَ هَذَا إِلَى ابن عَبَّاس - يَعْنِي: بُشَيْر بن كَعْب- فَجَعَلَ يُحَدِّثهُ، فَقَالَ لَهُ ابن عَبَّاس: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا. فَعَادَ لَهُ، ثُمَّ حَدَّثَهُ. فَقَالَ لَهُ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا. فَعَادَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَدْرِي أَعَرَفْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ،