أن يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الحَالَة المَذمُومَة مِنْهُ، وَهِيَ الفُحْشُ فَيَجْتَنِبُوهَا، لا أَنَّهُ أَرَادَ الطَّعْنَ عَلَيْهِ والثَّلب لَهُ، وَكَذَلِكَ أَئِمَّتُنَا فِي العِلْمِ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ، إِنَّمَا أَطْلَقُوا الجَرْحَ فِيمَن لَيْسَ بِعَدْلٍ؛ لِئَلا يَتَغَطَّى أَمْرُهُ عَلَى مَنْ لا يخبره، فَيَظُنُّهُ مِنْ أَهْلِ العَدَالَةِ فَيَحْتَجُّ بِخَبَرِهِ، وَالإخْبَارُ عَنْ حَقِيقَةِ الأمْرِ إِذَا كَانَ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لا يَكُونُ غيبَة.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ فَاطِمَة بِنْت قَيْس، الَّذِي أَخْبَرَنَاهُ عَبْد الرَّحْمَن بن عُبَيْد اللَّه الحربي، أنَّا مُحَمَّد بن عَبْد اللَّه الشَّافِعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاق بن الحَسَن الحربي، ثنا عَبْد اللَّه بن مَسْلَمَة القَعْنَبِيّ، عَن مَالِك. ح، وَأَخْبَرَنَاهُ الحَسَن بن أَبِي إِسْحَاق القَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو مُصْعَب، ثنا مَالِك بن أَنَس، عَنْ عَبْد اللَّه بن يَزِيد مَوْلَى الأسْوَد بن سفيان، عَن أَبِي سَلَمَة بن عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ فَاطِمَة بِنْت قَيْس: أَنَّ أَبَا عَمْرو بن حَفْص طَلَّقَهَا ألبَتَّة وَهُوَ غَائِبٌ بِالشَّامِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلهُ بِشَعِيرٍ فَتَسَخَّطَتْهُ، فَقَالَ: وَاللَّه مَا لَكِ عَلَينَا مِنْ شَيْءٍ. فَجَاءَتْ رَسُول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ. وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيك، ثُمَّ قَالَ: تلك امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابن أُمِّ مَكْتُوم، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضعِينَ ثِيَابَكِ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي. قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ، ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوَية بن أَبِي سفيان وَأَبَا جَهْمِ خَطَبَانِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أَمَّا أَبُو جَهْم فَلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأمَّا مُعَاوِيَة فَصُعْلُوك لا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَة بن زَيْد. قَالَتْ: فَكَرِهْتُهُ. ثُمَّ قَالَ: انْكِحِي أُسَامَة بن زَيْد". فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللَّه فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا وَاغْتَبَطْتُ بِهِ.
فِي هَذَا الخَبَر دِلالَةٌ عَلَى أَنَّ إِجَازَةَ الجَرْحِ لِلضُّعَفَاءِ مِنْ جِهَةِ النَّصِيحَةِ، لِتُجْتَنَبَ الرِّوَايَة عَنْهُمْ، وَلِيُعْدَلَ عَن الاحْتِجَاجِ بِأَخْبَارِهِمْ، لأنَّ رَسُولَ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لَمَّا ذَكَرَ فِي أَبِي جَهْم: "أَنَّهُ لا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ"، وَأَخْبَرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ: "أَنَّهُ صُعْلُوك لا مَالَ لَهُ"؛ عِنْدَ مَشُورَةٍ اسْتُشِيرَ فِيهَا، لا تَتَعَدَّى المُسْتَشِيرَ.
كَانَ ذِكْر العُيُوب الكَامِنَةِ فِي بَعْضِ نَقَلَةِ السُّنَنِ، الَّتِي يُؤَدِّي السُّكُوتُ عَنْ إِظْهَارِهَا عَنْهُمْ وَكَشْفِهَا عَلَيْهِمْ، إِلَى تَحْرِيمِ الحَلالِ وَتَحْلِيلِ الحَرَامِ، وَإِلَى الفَسَادِ فِي شَرِيعَةِ الإسْلامِ، أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَأَحَقَّ بِالإظْهَارِ.
وَأَمَّا الغيبَة الَّتِي نَهَى اللَّه تَعَالَى عَنْهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: ١٢]. وَزَجَرَ رَسُولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عَنْهَا بِقَوْلِهِ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخلِ الإيمَانُ قَلْبَهُ، لا تَغْتَابُوا المُسْلِمِينَ وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ". فَهِيَ ذِكْرُ الرَّجُل عُيُوبَ أَخِيهِ، يَقْصدُ بِهَا الوَضْعَ مِنْهُ وَالتَّنْقِيصَ لَهُ، وَالإزْرَاءَ بِهِ فِيمَا لا يَعُودُ إِلَى حُكْمِ النَّصِيحَةِ، وإِيجَاب الدِّيَانَة مِنَ التَّحْذِيرِ عَن ائْتِمَانِ الخَائِنِ، وَقَبُول خَبَر الفَاسِقِ، وَاسْتِمَاع شَهَادَة الكاذِبِ.
قال ابن رجب: وكذلك يجوز ذكر العيب، إذا كان فيه مصلحة خاصة، كمن يستشير في نكاح أو معاملة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute