فخطر على قلبي ذِكر أيوب عليه السلام، فلما أتيته سلمت عليه، فرد وقال: ألست صاحبي. قلت: بلى. فقال: ما فعلت في حاجتي؟ فقلت: أنت أكرم على اللَّه أم أيوب عليه السلام؟ فقال: بل أيوب. فقلت: هل تدري ما صنع به ربه عز وجل؟ أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟ قال: بلى. قلت: كيف وجده؟ قال: صابرًا شاكرًا حامدًا. فقال: أوجز رحمك اللَّه. فقلت: إن الغلام وجدته مفترَسًا. فقال: الحمد للَّه الذي لم يخلق من ذريتي خلقًا يعصيه فيعذبه بالنار؛ ثم استرجع وشهق شهقة فمات. فقلت: إنا للَّه وإإنا إليه راجعون، رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع، وإن قعدت لم أقدر له على ضر ولا نفع، فسجيته بشملة كانت عليه وقعدت باكيًا، فبينما أنا قاعد إذ هجم عليَّ أربعة رجال، فقالوا: يا عبد اللَّه؛ ما قصتك؟ فذكرتها لهم، فقالوا: اكشف لنا عن وَجْهه، فلما كشفت وجهه انكبَّ القوم يُقبِّلون عينيْه مرة ويديه مرة، ويقولون: بأي عين طالما غضت عن محارم اللَّه تعالى، وبأي وجه ما كنت ساجدًا والناس نيام، فقلت: من هذا يرحمكم اللَّه؟ قالوا: هذا أبو قلابة الجرمي صاحب ابن عباس، فغسَّلناه وصلَّيْنا عليه ودفنَّاه، وانصرف القوم وانصرفت إلى رباطي، فنمت فرأيته في روضة من رياض الجنة، وعليه حُلتان من حُلل الجَنَّة وهو يتلوا:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد: ٢٤]، فقلت: ألست صاحبي؟ قال: بلى. فقلت: أنَّى لك هذا؟ قال: إن للَّه تعالى درجات لا تُنال إلا بالصبر عند النبلاء، والشكر عند الرخاء، مع خشية اللَّه تعالى في السرِّ والعلانية.
وفي "تاريخ الأصبهاني الكبير": عن ابن عياش قال: دخل أبو قلابة الجرمي مسجد البصرة، فإذا زياد الأعجم يُنشد بعجمته، فقال: من هذا العلج؟ فقالوا: زياد. فقال زياد: من هذا؟ قال: أبو قلابة الجرمي. فقام على رأسه وقال:[الطويل]
قُم صاغرًا يا شيخ جرمٍ فإنما ... يقال لكهل الصدق قُم غير صاغر
قضى اللَّه خلق الناس ثم خلفتم ... بقيَّة خلق اللَّه آخرَ آخِر
فلم تسمعوا إلا بمن كان قبلكم ... ولم تُدركوا إلا مدقَّ الحوافر
فلو رد أهل الحق ما كان منكم ... إلى حقه لم تُدفنوا في المقابر
قيل لزياد: يا أبا أمامة؛ فأين كانوا يدفنون؟ قال: في النواويس.
وقال الجارمي في "مختلف أسماء البلاد": توفي أبو قلابة بديْر آنَّا بالشام. ولما ذكره ابن خلفون في "الثقات" قال: كان رجلا صالحًا فقيهًا، فاضلا مشهورًا، وثقه ابن