نقل الصيدلانيُّ عن الشافعيِّ أنَّ المكِّيَّ لو خرج حاجًّا إِلى عرفة عازمًا على العود لطواف الوداع، والخروج إِلى سفر بعيد، فلا يقصر في حجِّه؛ لأنَّه ليس من سفره الذي قصده من مكَّة، ولو خرج إلى جُدَّةَ على أنَّ يعودَ إلى مكَّة، ويخرج إِلى سفر طويل قصر بجُدَّة في مدَّة المسافرين، وكذلك في ذهابه وإِيابه؛ لأنَّ مسيرتَها خمسون فرسخًا، وفي قصره بمكَّة في مدَّة المسافرين قولان يجريان في كلِّ عابر بوطنه في أثناء سفره، ولعلَّ الأقيسَ القصرُ، بِناءً على قصده؛ إِذ لو امتنع ذلك لوجب ألَّا يقصرَ عند خروجه منه إِذا قربت مسافتهُ من مقصده، وهذا وإِن كان قياسَ قولِ المنعِ فقد رأى الإِمام أنَّه لا سبيلَ إِلى التزامه ومهما بلغ السفر مرحلتين، فإِنَّه يقصر ذاهبًا وآيبًا، وظاهر نقل الصيدلانيِّ أنَّه يقصر بمقصده في مدَّة المسافرين، واستبعده الإِمام من جهة أنَّ سفره ينقطع على مقصده، فيكون إيابُه كسَفْرة جديدة؛ ولذلك لو كان سفرُه مرحلةً واحدة، فإِنَّه لا يقصر ذاهبًا ولا آيبًا، ولولا أنَّ الإِيابَ كابتداء السفر، لجاز له القصرُ؛ ضمًّا لمسافة الذهاب إِلى مرحلة الإِياب.
ولا وجهَ لما ذكره الإِمامُ (١)؛ لأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ترخَّص بمكَّة وعرفةَ، وهما مقصدُه وغايةُ سفره، وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان صدرًا من خلافته، وإِنَّما ينقطع السفرُ بالوصول إِلى المقصد إِذا لم ينوِ تواصلَ السفر، بخلاف ما لو نوى التواصلَ.
* * *
(١) لعلَّ في ذكر الإمام المؤلّف رأيًا له يخالف فيه إمام الحرمين. وانظر: "نهاية المطلب" (٢/ ٤٥٨).