وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» أَيْ مَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ إِيقَاعِ الْفَضَائِلِ وَالْمَكَارِمِ وَالنَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهَا.
وَالْخُلُقُ الْعَظِيمُ: هُوَ الْخُلُقُ الْأَكْرَمُ فِي نَوْعِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ الْبَالِغُ أَشَدَّ الْكَمَالِ الْمَحْمُودِ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ لِاجْتِمَاعِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حَسَنٌ مُعَامَلَته النَّاس على اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، فَالْخُلُقُ الْعَظِيمُ أَرْفَعُ مِنْ مُطْلَقِ الْخُلُقِ الْحَسَنِ.
وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» ، أَلَسْتَ تَقْرَأُ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ:
١] الْآيَاتِ الْعَشْرَ» . وَعَنْ عَلِيٍّ: الْخُلُقُ الْعَظِيمُ: هُوَ أَدَبُ الْقُرْآنِ وَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ مَا وَصَفَ بِهِ الْقُرْآنُ مَحَامِدَ الْأَخْلَاقِ وَمَا وُصِفَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان: ١٥٩] وَقَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَاف: ١٩٩] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ. وَمَا أَخَذَ بِهِ مِنَ الْأَدَبِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ غَيْرَ الْقُرْآنِ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»
، فَجَعَلَ أَصْلَ شَرِيعَتِهِ إِكْمَالَ مَا يَحْتَاجُهُ الْبَشَرُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ مَظْهَرٍ لِمَا فِي شَرْعِهِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها [الجاثية: ١٨] وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ:
وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الْأَنْعَام: ١٦٣] .
فَكَمَا جَعَلَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ جَعَلَ شَرِيعَتَهُ لِحَمْلِ النَّاسِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِالْخُلُقِ الْعَظِيمِ بِمُنْتَهَى الْاسْتِطَاعَةِ.
وَبِهَذَا يَزْدَادُ وُضُوحًا مَعْنَى التَّمَكُّنِ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ الْاسْتِعْلَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ
لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ الْخُلُقُ الْعَظِيمُ فِي نَفْسِهِ، وَمُتَمَكِّنٌ مِنْهُ فِي دَعْوَتِهِ الدِّينِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمَاعَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْخُلُقِ الْحَسَنِ هُوَ التَّدَيُّنُ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقَائِقِ، وَحِلْمُ النَّفْسِ، وَالْعَدْلُ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَتَاعِبِ، وَالْاعْتِرَافُ لِلْمُحْسِنِ، وَالتَّوَاضُعُ، وَالزُّهْدُ، وَالْعِفَّةُ، وَالْعَفْوُ، وَالْجُمُودُ، وَالْحَيَاءُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَحُسْنُ الصَّمْتِ، وَالتَّؤُدَةُ، وَالْوَقَارُ، وَالرَّحْمَةُ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ.
وَالْأَخْلَاقُ كَامِنَةٌ فِي النَّفْسِ وَمَظَاهِرُهَا تَصَرُّفَاتُ صَاحِبِهَا فِي كَلَامِهِ، وَطَلَاقَةِ