وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ إِحْدَى قَضَايَا جَاءَ فِيهَا الْقُرْآنُ مُؤَيِّدًا لِرَأْيِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَقَدْ رَوَى
مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ، قَالَ: «وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي الْحِجَابِ، وَفِي أُسَارَى بدر» .
[٧٠]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٧٠]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَهُوَ إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِحَالِ سَرَائِرِ بَعْضِ الْأَسْرَى، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْخِطَابُ مُتَعَلِّقًا بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَمَا يَتْبَعُهُ، وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ فِي جُمْلَةِ الْأَسْرَى وَكَانَ ظَهَرَ مِنْهُ مَيْلٌ إِلَى الْإِسْلَامِ. قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ فَدَى الْعَبَّاسُ نَفْسَهُ وَفَدَى ابْنَيْ أَخَوَيْهِ: عَقِيلًا وَنَوْفَلًا. وَقَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكْتَنِي أَتَكَفَّفُ قُرَيْشًا.
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ قَبْلَ أَنْ يفارقوهم.
فَمَعْنَى لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مَنْ فِي مَلْكَتِكُمْ وَوِثَاقِكُمْ، فَالْأَيْدِي مُسْتَعَارَةٌ لِلْمِلْكِ.
وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْمَالِكِينَ. وَكَانَ الْأَسْرَى مُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ مَا فَادَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا لِقَصْدِ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ.
وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَحَبَّةُ الْإِيمَانِ وَالْعَزْمُ عَلَيْهِ، أَيْ: فَإِذَا آمَنْتُمْ بَعْدَ هَذَا الْفِدَاءِ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ. وَلَيْسَ إِيتَاءُ الْخَيْرِ عَلَى مُجَرَّدِ مَحَبَّةِ الْإِيمَانِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ، كَمَا أَخْبَرَ الْعَبَّاسُ عَنْ نَفْسِهِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْمَحَبَّةِ مِنَ الْإِسْلَامِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:
وَيَغْفِرْ لَكُمْ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ الْخَيْرُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الْجَزْمَ بِالْإِيمَانِ: لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدَّعُوهُ وَلَا عُرِفُوا بِهِ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: كَانَ أَسْرَى بَدْرٍ مُشْرِكِينَ فَفَادَوْا وَرَجَعُوا وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَأَقَامُوا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute