للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الرّوم (٣٠) : الْآيَات ٤٤ إِلَى ٤٥]

مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥)

هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِإِجْمَالِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ [الرّوم: ٤٣] ، إِذِ التَّثْبِيتُ عَلَى الدِّينِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْفَسَادِ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ يَتَضَمَّنُ تَحْقِيرَ شَأْنِهِمْ عِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يَضُرُّونَ بِكُفْرِهِمْ إِلَّا أَنْفُسَهَمْ، وَالَّذِي يَكْشِفُ هَذَا الْمَعْنَى تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَخْصِيصَهُ بِالْمُسْنِدِ إِلَيْهِ، أَيْ فَكُفْرُهُ عَلَيْهِ لَا عَلَيْكَ وَلَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا ابْتُدِئَ بِذِكْرِ حَالِ مَنْ كَفَرَ ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ مَنْ عَمِلَ صالِحاً. وَاقْتَضَى حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ أَنَّ فِي الْكُفْرِ تَبِعَةً وَشَدَّةً وَضُرًّا عَلَى الْكَافِرِ، لِأَنَّ (عَلَى) تَقْتَضِي ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، كَمَا اقْتَضَى اللَّامُ فِي قَوْلِهِ فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أَنَّ لِمَجْرُورِهَا نَفَعًا وَغَنْمًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَة: ٢٨٦] . وَقَالَ تَوْبَةُ بْنُ الْحُمَيِّرِ:

وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّيَ فَاجِرٌ ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا

وَأَفْرَدَ ضَمِيرَ كُفْرُهُ رَعْيًا لِلَّفْظِ مَنْ. وَهَذَا التَّرْكِيبُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَضَارِّ فِي الْكُفْرِ عَلَى الْكَافِرِ وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ غَيْرَهُ، مَعَ تَمَامِ الْإِيجَازِ، وَهُوَ وَعِيدٌ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: مَنْ كَفَرَ فَجَزَاؤُهُ عِقَابُ اللَّهِ، فَاكْتُفِيَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ (عَلَى) مِنْ قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَبِمُقَابَلَةِ حَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا بِقَوْلِهِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ فَهُوَ بَيَانٌ أَيْضًا لِمَا فِي جُمْلَةِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ [الرّوم: ٤٣] مِنَ الْأَمْرِ بِمُلَازَمَةِ التَّحَلِّي بِالْإِسْلَامِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ مَعَ مَا تَقْتَضِيهِ عَادَةُ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ وَالتَّرْهِيبِ

بِالتَّرْغِيبِ فَهُوَ كَالتَّكْمِلَةِ لِلْبَيَانِ. وَإِنَّمَا قُوبِلَ مَنْ كَفَرَ ب مَنْ عَمِلَ صالِحاً وَلم يُقَابل ب (من ءامن) لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ دُونَ الْكَافِرِينَ. فَاسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ الْعَمَلِ