للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٣٣]

وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣)

لَمَّا اسْتَقْصَى أَكْثَرَ مَعَاذِيرِهِمْ وَتَعَلُّلَاتِهِمْ وَأَلْقَمَهُمْ أَحْجَارَ الرَّدِّ إِلَى لَهَوَاتِهِمْ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ فَذْلَكَةً جَامِعَةً تَعُمُّ مَا تَقَدَّمَ وَمَا عَسَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ مِنَ الشُّكُوكِ وَالتَّمْوِيهِ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَدْحُوضٌ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ الْكَاشِفَةِ لِتُرَّهَاتِهِمْ.

وَالْمِثْلُ: الْمُشَابِهُ. وَفِعْلُ الْإِتْيَانِ مَجَازٌ فِي أَقْوَالِهِمْ وَالْمُحَاجَّةِ بِهِ، وَتَنْكِيرُ (مَثَلٍ) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ بِكُلِّ مَثَلٍ. وَالْمَقْصُودُ: مَثَلٌ مِنْ نَوْعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثَالِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ ابْتِدَاءً من قَوْله [تَعَالَى] : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الْفرْقَان: ٤] ، وقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النَّحْل: ٢٤] بِقَرِينَةِ سَوْقِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ اسْتِقْصَاءِ شُبْهَتِهِمْ، وقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧] وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان: ٨] وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الْفرْقَان: ٢١] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان:

٣٢] . وَدَلَّ عَلَى إِرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ: بِمَثَلٍ قَوْلُهُ آنِفًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ [الْفرْقَان: ٩] عَقِبَ قَوْلِهِ: وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان:

٨] . وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَأْتُونَكَ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِفَادَةِ أَنَّ إِتْيَانَهُمْ بالْأَمْثَالِ يَقْصِدُونَ بِهِ أَنْ يُفْحِمُوهُ.

وَالْإِتْيَانُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِظْهَارِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَأْتُونَكَ بِشَبَهٍ يُشَبِّهُونَ بِهِ حَالًا مِنْ أَحْوَالِكَ يَبْتَغُونَ إِظْهَارَ أَنَّ حَالَكَ لَا يُشْبِهُ حَالَ رَسُولٍ مِنَ اللَّهِ إِلَّا أَبْطَلْنَا تَشْبِيهَهُمْ وَأَرَيْنَاهُمْ أَنَّ حَالَةَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ لَا تُلَازِمُ مَا زَعَمُوهُ سَوَاءٌ كَانَ مَا أَتَوْا بِهِ تَشْبِيهًا صَرِيحًا بِأَحْوَالِ غَيْرِ الرُّسُلِ كَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [الْفرْقَان: ٥] وَقَوْلِهِمْ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: ٧] ، وَقَوْلِهِمْ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان: ٨] ، أَمْ كَانَ نَفْيُ مُشَابَهَةِ حَالِهِ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ فِي زَعْمِهِمْ فَإِنَّ نَفْيَ مُشَابَهَةِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الْفرْقَان: ٢١] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] إِذَا كَانُوا قَالُوهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ

مُخَالِفٌ لِحَالِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَهَذَا نَفِيُ تَمْثِيلِ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ الرُّسُلِ الْأَسْبَقِينَ فِي زَعْمِهِمْ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ مَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ تَقْتَضِيهِ النُّبُوءَةُ مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَسْأَلَهُ، فَيُجَابَ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [الْفرْقَان: ٧، ٨] .