للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يَبْلُغُونَ صِفَةَ التَّقْوَى أَيْ كَمَالَ مُصَادَفَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَعَلَّ يَتَّقُونَ عَلَى هَذَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ مِثْلَ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩] ، وَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفُ الْمَفْعُول للقرينة.

[١٨٨]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٨٨]

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)

عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها [الْبَقَرَة:

١٨٧] تَحْذِيرٌ مِنَ الْجُرْأَةِ على مُخَالفَة حكم الصِّيَامِ بِالْإِفْطَارِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْأَكْلِ الْحَرَامِ فَعَطَفَ عَلَيْهِ أَكْلٌ آخَرُ مُحَرَّمٌ وَهُوَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَالْمُشَاكَلَةُ زَادَتِ الْمُنَاسَبَةَ قُوَّةً، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ عِدَادِ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ لِإِصْلَاحِ مَا اخْتَلَّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى نَظَائِرِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَصْلُ تَشْرِيعٍ عَظِيمٌ لِلْأَمْوَالِ فِي الْإِسْلَامِ.

كَانَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ شِنْشِنَةً مَعْرُوفَةً لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَلْ كَانَ أَكْثَرُ أَحْوَالِهِمُ الْمَالِيَّةِ فَإِنَّ اكْتِسَابَهُمْ كَانَ مِنَ الْإِغَارَةِ وَمِنَ الْمَيْسِرِ، وَمِنْ غَصْبِ الْقَوِيِّ مَالَ الضَّعِيفِ، وَمِنْ أَكْلِ الْأَوْلِيَاءِ أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ واليتامى، وَمن الْغرَر وَالْمُقَامَرَةِ، وَمِنَ الْمُرَابَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ عَن طِيبِ نَفْسٍ.

وَالْأَكْلُ حَقِيقَتُهُ إِدْخَالُ الطَّعَامِ إِلَى الْمَعِدَةِ مِنَ الْفَمِ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَة لِلْأَخْذِ بِقَصْدِ الِانْتِفَاعِ دُونَ إِرْجَاعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَخْذَ يُشْبِهُ الْأَكْلَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى إِحْرَاقِ مَالِ الْغَيْرِ اسْمُ الْأَكْلِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْقَرْضِ وَالْوَدِيعَةِ اسْمُ الْأَكْلِ، وَلَيْسَ الْأَكْلُ هُنَا اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَيْئَةِ آخِذِ مَالِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ بِقَصْدِ عَدَمِ إِرْجَاعِهِ وَهَيْئَةِ الْأَكْلِ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَالْأَمْوَالُ جَمْعُ مَالٍ وَنُعَرِّفُهُ بِأَنَّهُ «مَا بِقَدْرِهِ يَكُونُ قَدْرُ إِقَامَةِ نِظَامِ مَعَاشِ أَفْرَادِ النَّاسِ فِي تنَاول الضروريات والحاجيات وَالتَّحْسِينِيَّاتِ بِحَسَبِ مَبْلَغِ حَضَارَتِهِمْ حَاصِلًا بِكَدْحٍ» ، فَلَا يُعَدُّ الْهَوَاءُ مَالًا، وَلَا مَاءُ الْمَطَرِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْبِحَارِ مَالًا، وَلَا التُّرَابُ مَالًا، وَلَا كُهُوفُ الْجِبَالِ وَظِلَالُ الْأَشْجَارِ مَالًا، وَيُعَدُ الْمَاءُ الْمُحْتَفَرُ بِالْآبَارِ مَالًا، وَتُرَابُ الْمُقَاطِعِ مَالًا، وَالْحَشِيشُ وَالْحَطَبُ مَالًا، وَمَا يَنْحِتُهُ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ فِي جَبَلٍ مَالًا.