للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣١]

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١)

عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٠] . وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الِاحْتِرَاسِ مِمَّا قَدْ يَتَوَهَّمُ السَّامِعُونَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّكْلِيفِ.

وَوَجْهُ هَذَا الِاحْتِرَاسِ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ يَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ تَقَعَ وَيَتَعَلَّقُ بِهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا فَإِنَّهَا سَتَقَعُ وَيَتَعَلَّقُ بِعَزْمِ النَّاسِ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَةِ التَّكَالِيفِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَمِنْ عَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ كُفْرًا وَعِنَادًا، فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ التَّكَالِيفِ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ عِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِ النَّاسِ وَتَقَدُّمُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.

وَلَمَّا

قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ لِكُلِّ عَبْدٍ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مِنَ النَّارِ. فَقَالُوا أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى مَا كُتِبَ لَنَا؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَقَرَأَ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى

[اللَّيْل: ٥- ١٠] » .

وَالْبَلْوُ: الِاخْتِبَارُ وَتَعَرُّفُ حَالِ الشَّيْءِ. وَالْمُرَادُ بِالِابْتِلَاءِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي التَّكْلِيفِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي وَالْكَافِرُ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ ابْتِلَاءً عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِابْتِلَاءُ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِقَامَةَ مَصَالِحِ النَّاسِ وَدَفْعَ الْفَسَادِ عَنْهُمْ لِتَنْظِيمِ أَحْوَالِ

حَيَاتِهِمْ ثُمَّ ليترتب عَلَيْهِ مِثَال الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ مُبَيِّنًا لِأَحْوَالِ نُفُوسِ النَّاسِ فِي الِامْتِثَالِ وَمُمَحِّصًا لِدَعَاوِيهِمْ وَكَاشِفًا عَنْ دَخَائِلِهِمْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يُشْبِهُ الِابْتِلَاءَ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ تَفَاصِيلَ أَحْوَالِهِمْ، وَلَكِنَّهَا لَا تَظْهَرُ لِلْعِيَانِ لِلنَّاسِ إِلَّا عِنْدَ تَلَقِّي التَّكَالِيفِ فَأَشْبَهَتْ الِاخْتِبَارَ، فَإِطْلَاقُ اسْمِ الِابْتِلَاءِ عَلَى التَّكْلِيفِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ وَتَسْمِيَةُ مَا يَلْزَمُ التَّكْلِيفَ مِنْ إِظْهَارِ أَحْوَالِ النُّفُوسِ ابْتِلَاءً اسْتِعَارَةٌ، فَفِي قَوْلِهِ:

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ مَجَازٌ مُرْسَلٌ وَاسْتِعَارَةٌ.

وحَتَّى حَرْفُ انْتِهَاءٍ فَمَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا وَهِيَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ تَشْبِيهًا لِعِلَّةِ الْفِعْلِ بِغَايَتِهِ فَإِنَّ غَايَةَ الْفِعْلِ بَاعِثٌ لِفَاعِلِ الْفِعْلِ فِي الْغَالِبِ، فَلِذَلِكَ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ حَتَّى بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: ٧] .