للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة المدثر (٧٤) : الْآيَات ٥٤ إِلَى ٥٦]

كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)

(كَلَّا) رَدْعٌ ثَانٍ مُؤَكِّدٌ لِلرَّدْعِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ لَا يُؤْتَوْنَ صُحُفًا مَنْشُورَةً وَلَا يُوزَعُونَ إِلَّا بِالْقُرْآنِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ تَعْلِيلٌ لِلرَّدْعِ عَنْ سُؤَالِهِمْ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ صُحُفٌ مُنَشَّرَةٌ، بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ تَذْكِرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: ٥٠، ٥١] . فَضَمِيرُ إِنَّهُ لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَتَنْكِيرُ تَذْكِرَةٌ لِلتَّعْظِيمِ.

وَقَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ تَذْكِرَةٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [١٩] .

وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّرْغِيبِ فِي التَّذَكُّرِ، أَيِ التَّذَكُّرُ طَوْعُ مَشِيئَتِكُمْ فَإِنْ شِئْتُمْ فَتَذَكَّرُوا.

وَالضَّمِيرُ الظَّاهِرُ فِي ذَكَرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِنَّهُ وَهُوَ الْقُرْآنُ فَيَكُونُ عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ وَأَصْلُهُ: ذَكَرَ بِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِاسْمِهِ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِأَنَّهُ مُسْتَحْضَرٌ مِنَ الْمَقَامِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل: ١٩] .

وَضَمِيرُ شاءَ رَاجِعٌ إِلَى (مَنْ) ، أَيْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَذَكَّرَ ذَكَرَ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ آنِفًا لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر: ٣٧] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [١٩]

فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا.

وَهُوَ إِنْذَارٌ لِلنَّاسِ بِأَنَّ التَّذَكُّرَ بِالْقُرْآنِ يحصل إِذا شاؤوا التَّذَكُّرَ بِهِ. وَالْمَشِيئَةُ تَسْتَدْعِي التَّأَمُّلَ فِيمَا يُخَلِّصُهُمْ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى التَّقْصِيرِ وَهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي إِهْمَالِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ.

وَجُمْلَة وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ لِإِفَادَةٍ تَعَلُّمِهُمْ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَذَكُّرَ مَنْ شَاءُوا أَنْ يَتَذَكَّرُوا لَا يَقَعُ إِلَّا مَشْرُوطًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَنْ