للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ مُوَالِينَ لِلَّهِ فَقَدْ كَذَّبُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا لَهُمُ الْإِلَهِيَّةَ، لِأَنَّ الْعَابِدَ لَا يكون معبودا. وَقد تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ (وَلِيٍّ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤] وَفِي آخِرِ سُورَةِ الرَّعْدِ.

ومِنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَ (دُونَ) اسْمٌ لِمَعْنَى غَيْرٍ، أَيْ أَنْتَ وَلِيُّنَا وَهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ لَنَا وَلَا نَرْضَى بِهِمْ لِكُفْرِهِمْ فَ مِنْ دُونِهِمْ تَأْكِيدٌ لِمَا أَفَادَتْهُ جُمْلَةُ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنَ الْحَصْرِ لِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ.

وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ انْتِقَالًا مِنَ التَّبَرُّؤِ مِنْهُمْ إِلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الَّذِينَ سَوَّلُوا لَهُمْ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ إِضْرَابَ إِبْطَالٍ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَالْمَعْنَى: بَلْ كَانَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ وَكَانَ الْجِنُّ رَاضِينَ بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّا مُنْكِرُونَ عِبَادَتَهُمْ إِيَّانَا وَلَمْ نَأْمُرْهُمْ بِهَا وَلَكِنَّ الْجِنَّ سَوَّلَتْ لَهُمْ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ فَعَبَدُوا الْجِنَّ وَعَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ.

وَجُمْلَةُ أَكْثَرُهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ وَضَمِيرُ بِهِمْ لِلْجِنِّ، وَالْمَقَامُ يَرُدُّ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مَعَادِهِ وَلَوْ تَمَاثَلَتِ الضَّمَائِرُ كَمَا فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ:

عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا

أَيْ أَحْرَزَ جَمْعُ الْمُشْرِكِينَ مَا جَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَغَانِمَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَحْشُرُهُمْ ونقول بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِيَاءِ الْغَائِبِ فِيهِمَا، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى رَبِّي مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ [سبأ: ٣٩] .

[٤٢]

[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٤٢]

فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢)

فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا.

الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ وَالْجِنَّ. وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ الْمُقَاوَلَةِ السَّابِقَةِ. وَهِيَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْمَقْصُودُ بِهِ:

التَّعْرِيضُ بِضَلَالِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَعْلَمُونَ مَضْمُونَ هَذَا الْخَبَرِ فَلَا نَقْصِدُ إِفَادَتَهُمْ بِهِ. وَالْمَعْنَى: إِذْ علمْتُم أَنكُمْ عَبدْتُمْ الْجِنَّ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.