للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ١٧]

وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)

ضُرِبَ مِثَالٌ لِإِهْلَاكِ الْقُرَى الَّذِي وُصِفَ سَبَبُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِتَمْثِيلِهِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ فِي الْكَشْفِ وَأَدْخَلُ فِي التَّحْذِيرِ الْمَقْصُودِ. وَفِي ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ حُلُولِ الْعَذَابِ بِالْقُرَى مُقَدَّمًا بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ، ثُمَّ بِتَوْجِيهِ الْأَوَامِرِ إِلَى الْمُتْرَفِينَ ثُمَّ فِسْقِهِمْ عَنْهَا وَكَانَ زُعَمَاءُ الْكَفَرَةِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ مُتْرَفِينَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود: ٢٧] وَقَالَ لَهُمْ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً [هود: ٣١] .

فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَطْفَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْفَاءِ لِأَنَّهَا كَالْفَرْعِ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ بِالْوَاوِ إِظْهَارًا لِاسْتِقْلَالِهَا بِوَقْعِ التَّحْذِيرِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَكَانَ ذَلِك تخريجا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمُنَاسِبِ.

وَ (كَمْ) فِي الْأَصْلِ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْعَدَدِ، وَتُسْتَعْمَلُ خَبَرِيَّةً دَالَّةً عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مُبْهَمِ النَّوْعِ، فَلِذَلِكَ تَحْتَاجُ إِلَى تَمْيِيزٍ لِنَوْعِ الْعَدَدِ، وَهِيَ هُنَا خَبَرِيَّةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا الْتُزِمَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْفِعْلِ نَظَرًا لِكَوْنِ أَصْلِهَا الِاسْتِفْهَامَ وَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ. ومِنَ الْقُرُونِ تَمْيِيزٌ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ (كَمْ) .

وَالْقُرُونُ جَمْعُ قَرْنٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْمُدَّةُ الطَّوِيلَةُ مِنَ الزَّمَنِ فَقَدْ يُقَدَّرُ بِمِائَةِ سَنَةٍ وَبِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ كَمَا هُنَا.

وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»

، أَرَادَ أَهْلَ قَرْنِي، أَيْ أَهْلَ الْقَرْنِ الَّذِي أَنَا فِيهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الْفرْقَان: ٣٨] .