وَإِرْسَاءُ الْجِبَالِ: إِثْبَاتُهَا فِي الْأَرْضِ، وَيُقَالُ: رَسَتِ السَّفِينَةُ، إِذَا شُدَّتْ إِلَى الشَّاطِئِ فَوَقَفَتْ عَلَى الْأَنْجَرِ، وَيُوصَفُ الْجَبَلُ بِالرُّسُوِّ حَقِيقَةً كَمَا فِي «الْأَسَاسِ» ، قَالَ السَّمَوْأَلُ أَوْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ يَذْكُرُ جَبَلَهُمْ:
رَسَا أَصْلُهُ فَوْقَ الثَّرَى وَسَمَا بِهِ ... إِلَى النَّجْمِ فَرْعٌ لَا يُنَالُ طَوِيلُ
وَإِثْبَاتُ الْجِبَالِ: هُوَ رُسُوخُهَا بِتَغَلْغُلِ صُخُورِهَا وَعُرُوقِ أَشْجَارِهَا لِأَنَّهَا خُلِقَتْ ذَاتَ صُخُورٍ سَائِخَةٍ إِلَى بَاطِنِ الْأَرْضِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَزَعْزَعَتْهَا الرِّيَاحُ، وَخُلِقَتْ تَتَخَلَّلُهَا الصُّخُورُ وَالْأَشْجَارُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَهَيَّلَتْ أَتْرِبَتُهَا وَزَادَهَا فِي ذَلِكَ أَنَّهَا جُعِلَتْ أَحْجَامُهَا مُتَنَاسِبَةً بِأَنْ خُلِقَتْ مُتَّسِعَةَ الْقَوَاعِدِ ثُمَّ تَتَصَاعَدُ مُتَضَائِقَةً.
وَمِنْ مَعْنَى إِرْسَائِهَا: أَنَّهَا جُعِلَتْ مُنْحَدِرَةً لِيَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنَ الصُّعُودِ فِيهَا بِسُهُولَةٍ كَمَا يَتَمَكَّنُ الرَّاكِبُ مِنْ رُكُوبِ السَّفِينَةِ الرَّاسِيَةِ وَلَوْ كَانَتْ فِي دَاخِلِ الْبَحْرِ مَا تمكن الرَّاكِب مِنْ رُكُوبِهَا إِلَّا بِمَشَقَّة.
[٣٣]
[سُورَة النازعات (٧٩) : آيَة ٣٣]
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣)
(الْمَتَاعُ) يُطْلَقُ عَلَى مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مُدَّةً، فَفِيهِ مَعْنَى التَّأْجِيلِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَأَمْتِعَتِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٢] ، وَهُوَ هُنَا اسْمُ مَصْدَرِ مَتَّعَ، أَيْ إِعْطَاءٌ لِلِانْتِفَاعِ زَمَانًا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٤] .
وَانْتُصِبَ مَتاعاً عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفِعْلِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَتَّعْنَاكُمْ مَتَاعًا.
وَلَامُ لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ لَامُ التَّقْوِيَةِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ فَرْعٌ فِي الْعَمَلِ عَنِ الْفِعْلِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى خَلْقِ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، وَذَلِكَ فِي الْأَرْضِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْجِبَالُ فَلِأَنَّهَا مُعْتَصَمُهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَفِيهَا مَرَاعِي أَنْعَامِهِمْ تَكُونُ فِي الْجِبَالِ مَأْمُونَةً مِنَ الْغَارَةِ عَلَيْهَا عَلَى غِرَّةٍ.
وَهَذَا إِدْمَاجُ الِامْتِنَانِ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِإِثَارَةِ شُكْرِهِمْ حَقَّ النِّعْمَةِ بِأَنْ يَعْبُدُوا الْمُنْعِمَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِعِبَادَتِهِ غَيْرَهُ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: ٣٠] إِلَى وَلِأَنْعامِكُمْ مُحَسِّنُ الْجَمْعِ ثمَّ التَّقْسِيم.