للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى هَذَا الرَّفْعِ، وَعَلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَنَّ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَقِيَ حَيًّا أَوْ أَمَاتَهُ اللَّهُ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٥] .

وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ظَاهِرُ الْمَوْقِعِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَزَّ فَقَدْ حَقَّ لِعِزِّهِ أَنْ يُعِزَّ أَوْلِيَاءَهُ، وَلَمَّا كَانَ حَكِيمًا فَقَدْ أَتْقَنَ صُنْعَ هَذَا الرَّفْعِ فَجَعَلَهُ فِتْنَةً لِلْكَافِرِينَ، وَتَبْصِرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَعُقُوبَةً ليهوذا الخائن.

[١٥٩]

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٥٩]

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما قَتَلُوهُ [النِّسَاء: ١٥٧] . وَهَذَا الْكَلَامُ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ أَمْرًا لَهُمْ، لِأَنَّ وُقُوعَ لَامِ الِابْتِدَاءِ فِيهِ يُنَادِي عَلَى الْخَبَرِيَّةِ. وإِنْ نَافِيَةٌ ومِنْ أَهْلِ الْكِتابِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَحَدٌ.

وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ لعيسى: أيّ ليومننّ بِعِيسَى، وَالضَّمِيرُ فِي مَوْتِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَحَدِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ الْكِتَابِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُطْلَقُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَمَّا النَّصَارَى فَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِعِيسَى مِنْ قَبْلُ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْيَهُودَ مَعَ شِدَّةِ كُفْرِهِمْ بِعِيسَى لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَهُوَ يُؤْمِنُ بِنُبُوَّتِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَيْ يَنْكَشِفُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ قَبْلَ انْزِهَاقِ رُوحِهِ، وَهَذِهِ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ بِهَا عَلَى عِيسَى، إِذْ جَعَلَ أَعْدَاءَهُ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَقَدْ آمَنُوا بِهِ جَزَاءً لَهُ عَلَى مَا لَقِيَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَتَّعْ بِمُشَاهَدَةِ أُمَّةٍ تَتْبَعُهُ. وَقِيلَ: كَذَلِكَ النَّصْرَانِيُّ عِنْدَ مَوْتِهِ يَنْكَشِفُ لَهُ أَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ.

وَعِنْدِي أَنَّ ضَمِيرَ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الرَّفْعِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النِّسَاء:

١٥٨] ، وَيَعُمُّ قَوْلُهُ أَهْلِ الْكِتابِ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى، حَيْثُ اسْتَوَوْا مَعَ الْيَهُودِ فِي اعْتِقَادِ وُقُوعِ الصَّلْبِ.