[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢١١]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١)
تَتَنَزَّلُ هَاتِهِ الْآيَةُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْبُرْهَانِ عَلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ:
هَلْ يَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٠] سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا أَوْ وَعِيدًا أَوْ وَعْدًا أَمْ تَهَكُّمًا، وَأَيًّا مَا كَانَ مُعَادُ الضَّمِيرُ فِيهِ عَلَى الْأَوْجُهِ السَّابِقَةِ قد دَلَّ بِكُلِّ احْتِمَالٍ عَلَى تَعْرِيضٍ بِفِرَقٍ ذَوِي غُرُورٍ وَتَمَادٍ فِي الْكُفْرِ وَقِلَّةِ انْتِفَاعٍ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ بِإِلْفَاتِهِمْ إِلَى مَا بَلَغَهُمْ مِنْ قِلَّةِ انْتِفَاعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أُوتُوهُ مِنْ آيَاتِ الِاهْتِدَاءِ مَعَ قِلَّةِ غَنَاءِ الْآيَاتِ لَدَيْهِمْ عَلَى كَثْرَتِهَا، فَإِنَّهُمْ عَانَدُوا رَسُولَهُمْ ثُمَّ آمَنُوا بِهِ إِيمَانًا ضَعِيفًا ثُمَّ بَدَّلُوا الدِّينَ بَعْدَ ذَلِكَ تَبْدِيلًا.
وَعَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي يَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٠] لِأَهْلِ الْكِتَابِ: أَيْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ هُنَا إِلَى الْإِظْهَارِ بِقَوْلِهِ: بَنِي إِسْرائِيلَ لِزِيَادَةِ النِّدَاءِ عَلَى فَضِيحَةِ حَالِهِمْ وَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ أَشَدَّ، أَيْ هُمْ قَدْ رَأَوْا آيَاتٍ كَثِيرَةً فَكَانَ
الْمُنَاسِبُ لَهُم أَن يبادوا بِالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ، وَعَلَى كُلٍّ فَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا مُعْتَرِضَاتٌ بَيْنَ أَغْرَاضِ التَّشْرِيعِ الْمُتَتَابِعَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وسَلْ أَمْرٌ مِنْ سَأَلَ يَسْأَلُ أَصْلُهُ اسْأَلْ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا إِلْحَاقًا لَهَا بِنَقْلِ حَرَكَةِ حَرْفِ الْعِلَّةِ لِشِبْهِ الْهَمْزَةِ بِحَرْفِ الْعِلَّةِ فَلَمَّا تَحَرَّكَ أَوَّلُ الْمُضَارِعِ اسْتَغْنَى عَنِ اجْتِلَابِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، وَقِيلَ: سَلْ أَمْرٌ مِنْ سَأَلَ الَّذِي جُعِلَتْ هَمْزَتُهُ أَلِفًا مِثْلَ الْأَمْرِ مِنْ خَافَ يَخَافُ خَفْ، وَالْعَرَبُ يُكْثِرُونَ مِنْ هَذَا التَّخْفِيفِ فِي سَأَلَ مَاضِيًا وَأَمْرًا إِلَّا أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ تَرَكُوا هَذَا التَّخْفِيفَ غَالِبًا.
وَالْمَأْمُورُ بِالسُّؤَالِ هُوَ الرَّسُولُ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَرَقَّبُ أَنْ يُجِيبَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنْ سُؤَالِهِ إِذْ لَا يعبأون بِسُؤَالِ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّؤَالِ سُؤَالُ التَّقْرِيرِ لِلتَّقْرِيعِ، وَلَفْظُ السُّؤَالِ يَجِيءُ لِمَا تَجِيءُ لَهُ أَدَوَاتُ الِاسْتِفْهَامِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْرِيرِ إِظْهَارُ إِقْرَارِهِمْ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِمُقْتَضَى الْآيَاتِ فَيَجِيءُ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ التَّقْرِيعُ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَصْرِيحَهُمْ بِالْإِقْرَارِ بَلْ مُجَرَّدُ كَوْنِهِمْ لَا يَسَعُهُمُ الْإِنْكَارُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute