للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لَا عَنْ جَهْلٍ أَوْ غَلَطٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٧٥] . وَحَذَفَ مَا بُدِّلَ بِهِ النِّعْمَةُ لِيَشْمَلَ جَمِيعَ أَحْوَالِ التَّبْدِيلِ مِنْ كَتْمِ بَعْضِهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْ بَعْضٍ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ. وَالْعِقَابُ نَاشِئٌ عَنْ تَبْدِيلِ تِلْكَ النِّعَمِ فِي أَوْصَافِهَا أَوْ فِي ذَوَاتِهَا، وَلَا يكون تبديلها إِلَّا لِقَصْدِ مُخَالَفَتِهَا، وَإِلَّا لَكَانَ غَيْرَ تَبْدِيلٍ بَلْ تَأْيِيدًا وَتَأْوِيلًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إِبْرَاهِيم: ٢٨] لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا مَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ النِّعْمَةَ مَا هِيَ وَلَا تُؤْذِنُ بِالْمُسْتَبْدَلِ بِهِ هُنَالِكَ فَتَعَيَّنَ التَّصْرِيحُ بِالْمُسْتَبْدَلِ بِهِ، وَالْمُبَدِّلُونَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ غَيْرُ الْمُرَادِ مِنَ الْمُبَدِّلِينَ فِي هَذِهِ، لِأَنَّ تِلْكَ فِي كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهَا: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [إِبْرَاهِيم: ٣٠] .

وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ وَهُوَ عِلَّتُهُ، لِأَنَّ جَعْلَ هَذَا الْحُكْمِ الْعَامِّ جَوَابًا لِلشَّرْطِ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ فِعْلُ الشَّرْطِ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ هَذَا الْجَوَابِ، فَكَوْنُ اللَّهِ شَدِيدَ الْعِقَابِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ مَعْلُومٌ فَذِكْرُهُ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهُ الْفَائِدَةُ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ بَلِ التَّهْدِيدُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَهْدِيدُ الْمُبَدِّلِ فَدَلَّ عَلَى مَعْنَى: فَاللَّهُ يُعَاقِبُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، وَمَعْنَى شِدَّةِ عِقَابِهِ: أَنَّهُ لَا يُفْلِتُ الْجَانِيَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْعِقَابِ، وَقَدْ جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ نَفْسَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِجَعْلِ الْ فِي الْعِقَابِ عِوَضًا عَنِ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ شَدِيدٌ مُعَاقَبَتُهُ.

وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ هَنَا مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، لِإِدْخَالِ

الرَّوْعِ فِي ضَمِيرِ السَّامِعِ وَتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ، وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْكَلَامِ الْجَامِعِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَثَلِ أَمْرٌ قَدْ عَلِمَهُ النَّاسُ مِنْ قَبْلُ، وَالْعِقَابُ هُوَ الْجَزَاءُ الْمُؤْلِمُ عَنْ جِنَايَةٍ وَجُرْمٍ، سُمِّيَ عِقَابًا لِأَنَّهُ يعقب الْجِنَايَة.

[٢١٢]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢١٢]

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)

اسْتِئْنَافٌ بِالرُّجُوعِ إِلَى أَحْوَالِ كُفَّارِ الْعَرَبِ الْمَعْنِيِّينَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ قَصْدًا وَتَعْرِيضًا مِنْ قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [الْبَقَرَة: ٢١٠] ، وَالْمُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: